ذكر أحد الذين هداهم الله للإسلام -بعد اتباعه لدين سماويٍّ آخرٍ زيّفه أتباعه وحرفوه حتى غدا ديناً وضعياً- أنه توقف كثيراً عند صلاة المسلمين، وتساءل: كيف يُثقل ربُّ المسلمين عليهم إلى هذا الحد، فيفرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، يخرج المسلمون فيها من صلاة ليرجعوا إلى صلاة أخرى، ذلك غير صلاة السنن الكثيرة قبل كل صلاة مفروضة وبعدَها، وكيف تُطاق الحياة هكذا! ثم هداه الله بعد ذلك للإسلام، وهداه لحكمته في عباداته وكثرتها وتتابعها.
وفي أحد الأفلام السينمائية المصرية مشهدٌ مشابه، يحدث فيه أحد النصارى ابنه بأن المسلمين يصلون في كل يوم خمس صلوات، في إشارة إلى كثرة هذه الصلوات وتتابعها في اليوم والليلة بشكل فيه إثقال.
والنصارى لا يصلون إلا صلاة واحدة في أيام الأحد، يذهبون فيه إلى الكنائس، فيلهون ويلعبون ويأكلون ويشربون، بل ويقعون في الخطايا والانحرافات الأخلاقية، كما شهد بذلك كثيرون من أتباع المسيحية الذين اهتدوا بعد ذلك للإسلام.
وفي رمضان أكثر صورة ملفتة لمن أراد أن يتحدث من هذه الزاوية، ففي رمضان يقوم المسلم ليتسحر قبل الفجر، ثم يذهب لصلاة الفجر، ثم تكون أذكار الصباح بعد صلاة الفجر، ثم صلاة الضحى بعد شروق الشمس، ثم صلاة الظهر والسنن قبلها وبعدها، ثم صلاة العصر والسنن قبلها، ثم يأتي موعد الإفطار، فيذهب المسلمون عنده لصلاة المغرب والسنن قبلها وبعدها، فإذا أفطروا وطلبت أجسادهم الراحة بعد طول جوع وعطش يقومون لصلاة التراويح الطويلة، فإذا عادوا لبيوتهم بعد صلاة التراويح ندبهم الله لصلاة التهجد، وهكذا.
كل ذلك يضاف إلى الذكر وقراءة القرآن طوال النهار والليل.
فأي دين هذا الذي يثقل على الناس إلى هذا الحد!
الدين هو دين الإسلام الحق الذي أنزله الله ديناً واحداً، لا يُقبل من الناس غيره.
وهو الدين الذي لم يُحرف ولم يزيف، بل بقي محفوظا بحفظ الله له، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
فلا بد من التسليم أولاً بأن ما شرعه الله - عز وجل - وما فرضه على عباده المسلمين هو مما يطيقونه، تصديقا لقول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ} [البقرة: 286] ولا بد من التسليم ثانياً بأن ما شرعه الله وفرضه لن يكون إلا في صالح المسلمين في الدنيا والآخرة.
لا بد من التسليم أولاً بأن ما شرعه الله - عز وجل - وما فرضه على عباده المسلمين هو مما يطيقونه، تصديقا لقول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ} [البقرة: 286] ولا بد من التسليم ثانياً بأن ما شرعه الله وفرضه لن يكون إلا في صالح المسلمين في الدنيا والآخرة
فلم يرد الله بعباده أن يخربوا دنياهم من أجل آخرتهم، وإنما أراد بهم أن يعملوا لآخرتهم بدون أن ينسوا نصيبهم من الدنيا، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَاۖ} [القصص: 77].
وسيبقى الأصل في حياة الإنسان المسلم أن العمل لآخرته عبادةً، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ولا يمنع ذلك من الأخذ بأسباب الدنيا للعيش فيها، والتمتع بما أحله الله فيها من المال والنساء والبنين.
وقد وضع الله شهوات كثيرة في الإنسان واحتياجات حياتية تمنعه من الانقطاع التام لعبادة الله.
ولذلك فقد جعل الله عباداته كثيرة متتابعة؛ فإذا أراد الشيطان أن يستولي على الإنسان في دنياه وملذاته واحتياجاته، ردته العبادة بعد العبادة إلى ربه، وغسلته من آثامه وتقصيره، وذكّرته بآخرته ومآله.
ومن هذا الباب أكثر الله من مواسم الطاعة في حياة المسلم، وهي مواسم تكون الطاعة فيها غير ما تكون طوال العام، أجراً ووزنا، وهذا من أبواب رحمة الله بعبده المؤمن وإكرامه له.
تأتي مواسم الطاعة متتابعة طوال العام كما تتابع الصلوات في اليوم والليلة .جعل الله عباداته كثيرة متتابعة؛ فإذا أراد الشيطان أن يستولي على الإنسان في دنياه وملذاته واحتياجاته، ردته العبادة بعد العبادة إلى ربه، وغسلته من آثامه وتقصيره، وذكّرته بآخرته ومآله
فيأتي رمضان، ثم تأتي العشرة الأواخر منه، فإذا ما انتهى رمضان تأتي الستة من شوال، ثم تأتي العشرة من ذي الحجة، ثم يأتي التاسع والعاشر من المحرم، ثم ليلة النصف من شعبان، والجمعات المتتابعات في نهاية كل أسبوع، والاثنين والخميس كذلك.
هكذا أكثر الله من عباداته رحمة بعباده ومغفرة لهم، وكذلك أكثر من مواسم الطاعة، زيادة في الرحمة والمغفرة والإكرام.
والعشر الأوائل من ذي الحجة من أهم مواسم الطاعة طوال العام، قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ" [أخرجه البخاري].
وعنه أيضاً - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا، مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى" قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ" [رواه الدارمي].
وفي صيامها روي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر" [سنن أبي داود] وقد تحدث العلماء عن فضل العشر الأوائل من ذي الحجة والمفاضلة بينها وبين العشر الأواخر من رمضان.
قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: "فإن قلت أيُّ العشرين أفضل؟ عشر ذي الحجة أو العشر الأخير من رمضان؟ وأي الليلتين أفضل ليلة القدر أو ليلة الإسراء؟ قلت: أما السؤال الأول: فالصواب فيه أن يقال ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان إنما فضلت باعتبار ليلة القدر وهي من الليالي، وعشر ذي الحجة إنما فضلت باعتبار أيامها، إذ فيها يوم النحر ويوم عرفة ويوم التروية وهي من الأيام".
ومما رأيته واستحسنته، حرص البعض على اعتكاف العشر الأوائل من ذي الحجة في المساجد.
والاعتكاف في المساجد مستحب في أي وقت من العام، والأحاديث في استحباب الاعتكاف في المساجد كثيرة.
وهو أكثر استحباباً في العشر الأواخر من رمضان، لحرص النبي صلى الله عليه وسلم على اعتكافها طوال حياته.
وهو أيضا أكثر استحبابا في العشر الأوائل من ذي الحجة، من باب أنه مستحب طوال العام، وكون هذه الأيام أكثر الأيام التي تستحب فيها العبادة طوال العام، والاعتكاف من العبادة.
والاعتكاف في المساجد يساعد على تأدية العبادات على أفضل ما يكون، صلاة وصياماً وقياماً وقراءة للقرآن وذكراً، والانقطاع لله بالكلية.
وعلى المسلم الحريص على إرضاء ربه أن يستغل هذه العشر القادمة أعظم استغلال:
- صياماً كما جاء في الحديث السابق ذكره؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصومها.
- وذكراً لله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وقد قال ابن عباس في تفسيرها: "يعني العشر من ذي الحجة".
- والإكثار خاصة من التهليل والتحميد والتكبير، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أيّام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" [رواه الطبراني].
- والإكثار من كل أنواع العبادات، فالأعمال الصالحة فيها على العموم أحب إلى الله تعالى من الأعمال في غيرها كما جاء في الأحاديث السالف ذكرها.