هل يستعصي على التنظيمات الحركية أن تستوعب كافة الأفكار المدونة في الكتب والغنية بها أرفف المكتبات العربية والإسلامية فتستخدمها كشعارات دون حَرفية التنفيذ؟
هل ضاقت التنظيمات بالمفكرين ذرعاً فأصبح هناك نوع من العداء المبطن، فلا تسمع لهم، ولا تقبلهم داخل صفوفها فصارت التنظيمات ساحة لأصحاب السمع والطاعة دون غيرهم؟
ألم تكن تجربة الشيخ محمد الغزالي وفصله من جماعة الإخوان المسلمين بدون تحقيقات تذكر، والشيخ القرضاوي وتفضيله الخروج من ضيق التنظيم لرحابة فكر العالمية، ومن قبلهم المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي ظلت كتاباته حتى اليوم مجرد روائع فلسفية تزين مكتبات الأكاديميين والمفكرين، خير دليل على الفصام الكبير بين الفكر والتنظيم وصعوبة استيعاب أحدهما للآخر؟
فجر الصحوة الإسلامية والفكرة المجردة
بدأت الصحوة الإسلامية الحديثة مع دعوة جمال الدين الأفغاني وعرضه لفكرة الجامعة الإسلامية وجولته التي شملت أنحاء العالم الإسلامي، والتي حذر فيها من الاستعمار الذي بدأ غزوه لبلاد المسلمين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ليتسلم رايتها الشيخ محمد عبده، بعدما تلاشت فكرة الجامعة الإسلامية الموحدة لكل الأقطار العربية والإسلامية؛ لصعوبة تحقيقها في ظل مستجدات الاستعمار وتفكك الرابطة القوية التي توحد بلاد المسلمين ومزقتها شر ممزق، ليعرض لفكرة جديدة عمل عليها بشكل فردي، هي تجديد الفقه الإسلامي وفتح باب الاجتهاد بعدما توقف حقباً طويلة، ليتخذه سبيلاً لتغيير واقع الأمة المتجمد والمتخلف عن ركب الحضارة الحديثة والتي قدمت إلى الشرق مع الجيوش المحتلة تحمل الحداثة والتنوير المادي المعادي لفكرة الدين؛ بسبب خلافه الأصيل مع الكنيسة التي عادت العلم لقرون طويلة.
استقبل العرب ذلك الفكر التنويري بانبهار شديد وبدون تمحيص للفكر الوارد بعدائه لكل ما يمثل الدين، فكان لا بد من مواجهة الفكر بالفكر والحجة بالمنطق، لكن الأمر توقف عند الفكرة المجردة والتي تبناها بعد الشيخ محمد عبده تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا، ليقدم فكراً أكثر نضجاً للإعداد لتغيير مجتمعي عميق، أرسل رسائله عبر مجلة المنار وفي ذات الوقت كان قد صدر كتاباً يحملُ فكراً جديداً على المكتبة العربية والإسلامية في ذلك الوقت للمفكر عبد الرحمن الكواكبي المتوفى عام 1902م، وهو (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) والذي تعرض - لأول مرة في ذلك العصر - لفكرة الاستبداد السياسي، وانتقد الحاكم المستبد، وحذر من تبعات الاستسلام لظاهرة الاستبداد على كافة النواحي الإنسانية، وحظيت المكتبة العربية بكوكبة من المفكرين والأفكار التي ظلت حبيسة الكتب برغم عظمتها وسعتها وعمقها وحملها لقدر هائل من التحفيز على التغيير المجتمعي الذي لم يقدم أي تغيير يُذكر.
البنا والفكر الحركي
البنا هو المدرسة التي جمعت بين الفكرة والحركة، ونستطيع أن نقول إن مدرسة البنا -رحمه الله- كانت أول من وظفت الفكرة لتصير حركة شاملة تسير وفقها ، فقد وصَفها بالشمول وعمل بمقتضى ذلك الشمول حين وصفها بأنها: صوفية، دعوية، رياضية، اقتصادية، سياسية، جهادية... وغيرها من السمات التي تميز المنهج الإسلامي الشامل لكل مناحي الحياة، ويمثّل البنا البوتقة التي اجتمعت فيها كل أفكار عصره، والتي توقفت عند الفكر المجرد والمدون والرسائل الأسبوعية عبر مجلة المنار التي رأس تحريرها بعد الشيخ رشيد رضا، لتتحول إلى بحيرة متسعة بفكر واقعي جديد لفت أنظار الاستعمار والقصر لخطورة ذلك الوافد الجديد الذي استطاع وببراعة أن يبني رجالا تسير بالفكرة - تطبيقا لا قولا.
ففي موقفه من الاستعمار الذي حذر منه الأفغاني أنشأ الجهاز الخاص، وقاوم الاستعمار، وبطولات الإخوان -في القناة، والسويس، وسيناء، وفلسطين- ما تزال مضرباً للأمثال في التاريخ العسكري الحديث، وفي معرض فكرة محمد عبده عن التغيير بفتح باب الاجتهاد فقد فتح البنا مجالاً لقراءة جديدة وجديرة بالنظر، تهدف إلى الخروج من دائرة التصوف الكنسي وحصر الدين داخل أروقة المساجد إلى نشره في المقاهي والمدارس والمؤسسات والشوارع، وقد حدث تناغم وتمازج بين الفكرة والحركة، وظل البنا يحافظ على تلك العلاقة فترة حياته القصيرة، وحين لاحظ أن الجهاز الخاص -الذي أنشئ خصيصاً لمواجهة الاستعمار الإنجليزي- حاد قليلاً عن روح الفكرة صرخ غاضباً بكلمته الشهيرة: "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين" ويقول الأستاذ مهدي عاكف -رحمه الله- خلال حديثه مع قناة الحوار في مارس 2008:
"نعم، لقد كتب البنا تلك العبارة فيمن قتلوا النقراشي، الذي كان كل أحرار مصر يتمنون موته لخيانته مع المحتل الإنجليزي، لكنه ليس نهج تنظيم الإخوان المسلمين الذي يتبنى فكرة التغيير السلمي والتربوي التدريجي، بدءا بالفرد المسلم فالأسرة المسلمة فالمجتمع في الدولة فأستاذية العالم، ذلك التلاحم بين الفكرة والتنظيم الذي دفعه -رحمه الله- ليتهم إخوانه الذين نفذوا عملاً وطنياً -وقتها- بانعدام انتمائهم التنظيمي والإسلامي، بالرغم من إشادة الحركة الوطنية في ذلك الوقت بالحادث، وظل ذلك التصالح بين الفكرة والحركة في حياة المؤسس وبعد مماته.
فتح البنا مجالاً لقراءة جديدة وجديرة بالنظر، تهدف إلى الخروج من دائرة التصوف الكنسي وحصر الدين داخل أروقة المساجد إلى نشره في المقاهي والمدارس والمؤسسات والشوارع، وقد حدث تناغم وتمازج بين الفكرة والحركة
بداية الفصام الذي لم ينته بعد
بعد استشهاد مؤسس جماعة الإخوان المسلمين -رحمه الله- ودخول الجماعة في محنتين متواليتين في العام 1954، ثم العام 1965، حدثت ملابسات كثيرة فرقت بين الفكرة وتطبيقها، كانت البداية مع الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- فقد فُصِلَ من التنظيم عام 1953، وقد صرّح بذلك -فيما بعد- حين استدعاه نظام عبد الناصر للإذاعة المصرية؛ لكي يسب الإخوان المسلمين لكنه رفض، فاعتُقِل لعدة أيام إثر رفضه، فعلق قائلا: "لقد استقووا عليَّ في وقت ضعفي، فلن أستقوي عليهم في وقت ضعفهم"، وتلا فصله خروج الشيخ سيد سابق والشيخ صلاح أبو إسماعيل، والشيخ القرضاوي، وبعد موت المستشار الهضيبي (المرشد الثاني للجماعة) رفض القرضاوي التقيد بالتنظيم برفضه لمنصب المرشد العام.
إذن فقد حدث نوع من الفصام بين الفكر وأصحابه خاصة من علماء الأزهر مع قوانين التنظيم المكبلة والمحددة بالسمع والطاعة، بدون اعتبار لأصحاب الرأي والمشورة من العلماء والمفكرين، وجعل مسألة الشورى وفقاً للعدد بدون اعتبار التخصص العلمي والمكانة الاعتبارية العلمية والعملية لصاحب التخصص، ليصبح التنظيم طارداً -بصورة ما- لكل مفكر متبحر أو صاحب رؤية أكثر اتساعاً من قوانين لا تتغير بمرور الزمن، وقيادات تحمل نوعاً من القداسة لا يجب الاقتراب منها، وبعد أن سمعنا في بلادنا عن حكام يدّعون أنهم الدولة والدولة هم، سمعنا كذلك عن قادة تنظيمات يدعون أنهم التنظيم والتنظيم هم، وأصبح التعرض لهم هو تعرض للتنظيم ذاته والدين ذاته، وحدث الخلط بينهم والفصل النكد بين الفِكْر والتنظيم.
لقد عادت الأمور لما كانت عليه قبل تحول الفكرة إلى عمل، وتكلس الفكر وتجمد فصار في حاجة إلى مياه جارية تعيد إليه الحياة من جديد، وصارت الأمة في حاجة لمجدد يعود بمفهوم آخر -غير الذي اعتدنا عليه- في ظل مستجدات تستدعي الثورة على الذات، والثورة على ظاهرة التحجر وطغيان الماضي على الحاضر والذي يحول الماضي إلى صنم يعبد من دون الله، وصارت في حاجة لتضافر الجهود للتخلص من الرجعية الفكرية والتنظيمية التي تعود بنا لعصور الظلام والكنسية واللاهوتية التي نبذها العالم.
لقد عادت الأمور لما كانت عليه قبل تحول الفكرة إلى عمل، وتكلس الفكر وتجمد فصار في حاجة إلى مياه جارية تعيد إليه الحياة من جديد
الطريق إلى تصحيح المسار وتحقيق التوازن
تحتاج الأمة إلى عبودية الله الواحد الأحد والتحرر من ربقة عبودية الأفراد، والرجوع للمنبع الصافي الخالص الذي لا يفصل أو يفصم عرى الدين التي ترتكز دوماً على ركنين: العلم والعمل معاً، الروح والجسد معاً، الفكر والحركة معاً؛ منطلقة من القاعدة الربانية: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
وآلية التغيير داخل تلك الكيانات المنوط بها التغيير المجتمعي يجب أن تغير منظومة القوانين التي مرّت عليها عشرات السنوات بدون تطوير؛ لكي تستطيع مواكبة التغيرات الحديثة والتعامل مع المفاهيم الحالية بروح جديدة، تستمد جذورها من أصل الشرع، وتجدد ذاتها بمرونة لا تخرجها عن سياقه، وأكاد أجزم أنه لو كان الإمام المجدد حسن البنا موجوداً لغيّر بنفسه تلك القوانين التي يتخذها البعض ثوابت وكأنها آيات منزلة، فقد غيّر البنا سابقاً بنفسه الكثير من القواعد التي كان يعدّها من سبقوه ثوابت، وبنى جماعته ونظمها على أفضل الأسس في عصره، ولم يدّعِ البنا أنه أغلق باب الاجتهاد والتطوير، ولم يدّعِ أن كلامه مقدس ولا يجوز أن يطرأ عليه التغيير ، وهناك الكثير من الملفات التي يجب إعادة فتحها والنظر فيها من جديد.
إن الخطة التي لا تحمل في طياتها إمكانية التغيير ومرونته هي خطة فاشلة، والتنظيم الذي يغلق باب الاجتهاد هو أقرب ما يكون للانهيار
على سبيل المثال: قضية السمع والطاعة في المنشط والمكره، ووضع المرأة وإبعادها عن مراكز القرار، والنظر في مكانة المفكرين والعلماء والمجتهدين، وتسكينهم في المواطن التي يمكنهم إفادة الفكرة على قدر ما يحملونه من فكر، إن الخطة التي لا تحمل في طياتها إمكانية التغيير ومرونته هي خطة فاشلة، والتنظيم الذي يغلق باب الاجتهاد هو أقرب ما يكون للانهيار، والسعي نحو الحل وإحداث عملية التوازن والعودة بالمؤسسة لقوتها الأولى يجب السعي إليه حثيثاً في خطوات واضحة قبل أن ينهار البنيان فوق رؤوس أعضائه:
أولاً/ الجمع بين الفكرة والحركة:
فمجلس الشورى يشترط فيمن يترشح له اجتياز مجموعة من الاختبارات العملية لا تتوقف على الأقدمية أو أي اعتبارات أخرى، مع تخصيص عدد من المقاعد لأصحاب الفكر والاجتهاد والإبداع والتخصص.
ثانياً/ النظر باعتبار لمسألة استبعاد النساء من المواقع القيادية:
فإن كان استبعاد المرأة لازماً في وقت نشوء الجماعة، لا بد أن أسبابه انتفت الآن، أو انتفى معظمها – على الأقل.
ثالثاً/ وضع المناهج التربوية يجب أن يمر بمراحل متعددة:
إذ ليس المقصد تكوين ثقافة عامة، وإنما تكوين فرد مسلم يسير في مجتمعه كجماعة مستقلة بكل ما تحمله الكلمة، تبدأ بوضع المنهج، والاستعداد لتطويره -إذا تطلب الأمر-، على أن يشمل المنهج متابعة التنفيذ، ويقوم عليه علماء متخصصون، كلٌّ في مجاله التربوي.
رابعاً/ التواصل مع مراكز فكرية تهتم بالفكرة الإسلامية وتعمل وفقها:
وذلك للاستفادة من كل الآليات الموجودة على الساحة لتحقيق مسألة الانفتاح على الآخر كمؤسسة تُعنى بالتغيير الشامل للمجتمعات المسلمة.
وهذا جزء فقط من نقاط كثيرة مطروحة بهدف المساهمة في تجديد الدماء والانتقال بالتنظيمات التي تتبنى الحركة وليس مجرد الفكر المجرد كخطوة أولى في تصحيح المسار.