يندر أن تسأل أحداً عن حاله فيقول "الحمد لله"، بدون أن يهز كتفيه أو يبتسم ابتسامة أو ينظر نظرة توحي كلها أو أحدها بعكس ما ينبغي أن يفيده الحمد من العرفان الحقيقي، كالحنين لحال أحسن، أو الابتئاس من حال قائم، أو التطلع لحال جديد بدل حال لم يتغير، أو التأسف على تغير لم يكن كالمأمول.
والحالة الوحيدة الثابتة في كل تلك، هي نفسية الافتقار للمفقود حتى تجحد الموجود! هذه النفسية لا تترك صاحبها يهنأ بحال ماضٍ أو حاضر أو مستقبلي، وتلون كل موجود في عينيه بلون باهت اسمه المُسلَّمات، وكل مفقود في أحلامه بلون صاخب اسمه الأمنيات (مع العلم أن كل أمنية صاخبة تتحقق تنتقل تلقائيا في اللاوعي إلى مسلمة باهتة) وهكذا.
هل تفكرت يوماً في نعمة عظمى اسمها "طاقة النوم"؟ يظن الكثيرون أن النوم يعني فناء الطاقة، والحق أن النوم نفسه طاقة ! ولا يعي ذلك على الحقيقة إلا من ابتلي في حياته بمرض أو ألم حرمه نومة هنيئة ولو لخمس دقائق كاملة فحسب! مجرد أن تكون عندك القدرة على أن ترتمي على فراشك، وتزفر زفرة التمدد بعد تعب، وتتقلب يمنة ويسرة وعلى ظهرك، في كل حركة من أولئك –على سبيل المثال لا الحصر- نعمة عظمى لا يعيها إلا: محروم منها، أو متفكر فيها.أو تفكرت في نعمة اسمها "طاقة حمل نفسك"؟ أن تكون قادراً على مباشرة خصوصيات بدنك بنفسك، كالذهاب للخلاء مثلا، دون الحاجة للانكشاف أمام جمهور من المعاونين؟ إن التفكر في النعم البديهية وتعداد العاديَّات الجاهزة بين يديك، له أكبر الأثر في تربية قلبك على الحمد ونفسيتك على العرفان.
إن التفكر في النعم البديهية وتعداد العاديَّات الجاهزة بين يديك، له أكبر الأثر في تربية قلبك على الحمد ونفسيتك على العرفان
ونفسية الجحود المتنامية فينا لا تقتصر على معاملتنا مع ربنا تبارك وتعالى، ولا على معاملتنا مع غيرنا ممن يصنعون لنا معروفاً، بل مع ذات المعروف نفسه أيضاً، إذ لم نعد نستشعر في الإحسان إحساناً بل استحقاقا لنا، ولا في فضل المحسن فضلاً بل واجباً تجاهنا ، ولم يعد بيننا مكان للوصية النبوية "من صنعَ إليكم معروفاً فَكَافِئُوهُ، فإن لم تجدوا ما تُكَافِئُونَهُ فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه"، فأنى يكون الاشتغال بمكافأة أو دعاء صادق، إذ كانت لفظة الشكر نفسها صارت شحيحة على الألسنة -أو الكيبورد- ومنعدمة في القلوب والوجدان، وحين تقال فعَرَضا أو عادة، لا لشعور حقيقي بمعروف مصنوع.
ولذلك ورد في الحديث: "لا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ" [البخاري]، وفي رواية: "إن أشْكَرَ الناس لله عز وجل أشكرُهم للناس" [رواه أحمد]؛ لأنه لا يشكر الناس فعلاً إلا من يستشعر فضل الله تعالى الذي يسوقه له على أيدي عباده، فيكون شكره للعباد جزءًا من سلسال شكر طويل أوله الحمد لله، وأوسطه مكافأة المعروف للخلق، وامتداده لا آخره مدُّ المعروف لغيره. وفي الحديث: "من أُعطي عطاءً فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثنِ، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر".
لا يشكر الناس فعلاً إلا من يستشعر فضل الله تعالى الذي يسوقه له على أيدي عباده، فيكون شكره للعباد جزءًا من سلسال شكر طويل أوله الحمد لله، وأوسطه مكافأة المعروف للخلق، وامتداده لا آخره مدُّ المعروف لغيره
وفي قلب كل جاحد مثقال ذرة - على الأقل - من الكِبر، وفي طبعه نوع كفر ، أي جحود وكفران.
لذلك بغض النظر عن تبدل الأحوال ستظل الإشكالية كامنة في نفسية وعقلية صاحب الحال، تكدر عليه دنياه وآخرته معاً، وقد حذرنا المصطفى -عليه الصلاة والسلام- من تلك النفسية التي لا يملأ عين صاحبها ولا جوفه إلا التراب - تراب القبر.