كيف نقرأ ترشيح حركة “النهضة” لمورو للانتخابات الرئاسية؟

الرئيسية » حصاد الفكر » كيف نقرأ ترشيح حركة “النهضة” لمورو للانتخابات الرئاسية؟
ddd_1

منذ أن تحدث الشيخ راشد الغنوشي عن "العصفور النادر" الذي سترشحه حركة "النهضة" للانتخابات الرئاسية، وبعد أن صرّح بميله إلى أن يكون هذا "العصفور النادر" محل توافق وطني، ذهب أغلب المهتمين بالشأن التونسي إلى ترجيح أن يكون المقصود من كلام الشيخ شخصية سياسية تنتمي إلى النواة الصلبة لمنظومة الحكم، مع خلوّ التاريخ السياسي لتلك الشخصية من "موانع الدعم"، من مثل أن يكون استئصاليا أو معارضا لسياسة التوافق أو رافضا للقبول بـ "النهضة" جزءا ثابتا في الحقل السياسي، بل في منظومة الحكم الجديدة.

وبعد فشل مجلس شورى حركة "النهضة" في اجتماعه الأول، في حسم القرار المتعلق بالشخص الذي ستزكيه الحركة من داخلها أو من خارجها، جاء قرار هذا المجلس في اجتماعه الثاني ليعكس إجماعا حول مرشح من داخل "النهضة" هو عبد الفتاح مورو، نائب رئيس الحركة ورئيس مجلس نواب الشعب (البرلمان) بالإنابة. فقد تحصل مورو على 98 صوتا، مقابل 0 اعتراض و5 محتفظين، بعد أن كان خيار ترشيح شخصية نهضوية قد تحصل في الاجتماع الأول لمجلس الشورى على 45 صوتا، مقابل 44 صوتا لمرشح من خارج الحركة.

لماذا غيرت "النهضة" موقفها ورشحت مورو؟

أمام هذا المعطى السياسي الجديد، قد يكون علينا طرح بعض الأسئلة التي يستدعيها بالضرورة هذا التحوّل الجذري في مواقف الداعمين لترشيح شخصية من خارج الحركة. وقد تكون الأسئلة التالية أرضية مناسبة لتعميق السجال العمومي في هذه القضية: ما الذي تغير في أيام معدودات حتى ينتفي الخلاف ويحصل الإجماع على شخصية الأستاذ عبد الفتاح، مع ما يعنيه ذلك من قطيعة ـ أو تصعيد ـ مع بعض من كانوا يرون في أنفسهم ذلك "العصفور النادر" الذي تحدث عنه الشيخ راشد الغنوشي؟ وما هو تأثير ذلك على سياسة التوافق؟ وما هي انعكاسات هذا الخيار على قرار حركة "النهضة" بالتطبيع مع منظومة الحكم والخروج من منطق مواجهة أجهزة الدولة ـ ومن ورائها الدولة العميقة والمركّب الجهوي ـ المالي ـ الأمني المسيطر عليها؟

لا يختلف المهتمون بالشأن التونسي في أن الاجتماع الأول لمجلس الشورى يعكس حالة الانقسام الحاد التي تعيشها حركة "النهضة" من جهة علاقتها بالمنظومة الحاكمة، وتحديدا بنواتها الصلبة، ومن جهة علاقة قيادة الحركة بانتظارات قواعدهم الانتخابية الرافضة في أغلبها للتوافق اللامشروط والسلبي مع ورثة المنظومة القديمة. ورغم غياب معطيات موثوقة حول الأسباب الحقيقية للانقلاب في موقف مجلس الشورى، من المرجح أن يكون سببه هو فشل المفاوضات مع "العصافير النادرة" المهيمنة على الميراث التجمعي ـ الدستوري، ووصولها إلى طريق مسدود. ومن المرجح أيضا أن يكون امتناع الشيخ راشد عن توظيف صلاحياته وسلطاته في تعطيل هذا القرار يعود إلى وجود "تطمينات" قدمتها حركة "النهضة" لشركائها في الداخل، وللقوى الإقليمية والدولية المؤثرة في المشهد السياسي التونسي.

الإجماع الحاصل على ترشيح مورو يعكس قراءة براغماتية للواقع السياسي

ونحن نميل إلى هذا الطرح انطلاقا من استقراء علاقة الشيخ راشد والمكتب التنفيذي الذي يهيمن عليه بقرارات مجلس الشورى منذ مرحلة الترويكا، فقد كان هذا المجلس منحازا في أغلب قراراته لانتظارات القواعد النهضوية وأكثر التصاقا باستحقاقات الثورة، ولكنّ أغلب قراراته كانت "تُنسخ" بقرارات المكتب التنفيذي المعيّن من طرف الشيخ راشد. لقد سبق للشيخ راشد أن نسف الكثير من القرارات التي قد تمس من سلطاته في الحركة (من مثل تهديده بالاستقالة إذا ما اعتمد المؤتمر العاشر للحركة مبدأ الانتخاب للمكتب التنفيذي)، كما سبق له أن انقلب على نتائج "كبار الناخبين" في الحركة، وعدّل القوائم النهضوية في الانتخابات التشريعية بصورة أغضبت الكثير من قيادات الصف الأول، لكنه نجح في احتوائها، وإن إلى حين. فكيف يقبل الشيخ راشد والمكتب التنفيذي للحركة قرار مجلس الشورى إذا كان هذا القرار مضرا بسياسة التوافق أو معارضا للخيار الاستراتيجي للحركة بالتطبيع مع منظومة الحكم؟

قراءة براغماتية للواقع السياسي

للإجابة على هذا السؤال، فإننا نحتاج إلى دراسة شخصية عبد الفتاح مورو الذي سيكون مرشح الحركة للانتخابات الرئاسية، كما سنحتاج فوق ذلك إلى دراسة الممكنات أو الخيارات التي كانت أمام الحركة في هذه المسألة. ونحن نذهب إلى أن الإجماع الحاصل على ترشيح مورو يعكس قراءة براغماتية للواقع السياسي؛ فهو يتمتع بـ "مقبولية" تتجاوز قواعد حركة "النهضة". فهذا المحامي"البلدي" (المديني) ينتمي من جهة أصوله إلى النواة الصلبة لمنظومة الحكم، وهو طبقيا لا يمثل عموم النهضويين بقدر تمثيله للبرجوازية المدينية، كما أن أغلب مواقفه بعد الثورة تميل إلى التطبيع مع المنظومة القديمة ورموزها. ولذلك؛ فإن ترشيحه لن يواجه برفض جذري من غير النهضويين، كما أن فيه رسالة طمأنة للشركاء المحليين وللقوى الإقليمية والدولية التي تتوجس خيفة من "الصقور"، أي من أولئك الرافضين لسياسة التوافق بشروط المنظومة القديمة.

أما من جهة خيارات "النهضة" في الانتخابات الرئاسية، فإن ترشيح مورو قد يكون أقل الخيارات كلفة وأخفها تأثيرا سلبيا على قواعد "النهضة" في الانتخابات التشريعية. فلو زكّت "النهضة" مرشحا من المنظومة القديمة، فإنها قد تواجه بتمرد من قواعدها الذين قد لا يلتزمون بقرار قيادتهم، وهو ما قد ينذر بحصول انقسامات أو تجاذبات داخلية لا تحتاجها الحركة في هذه المرحلة الهشة من تاريخ تونس. أما تزكية مرشح من خارج المنظومة القديمة، فهو أمر ليس مطروحا في حركة "النهضة"، لأنه قرار يناقض قرار الحركة بالتطبيع مع منظومة الحكم. وهو ما يعني أنه لم يبق أمام الحركة إلا تقديم مرشحها الخاص، لكن مع الحرص على أن يكون مقبولا خارج الحركة وضامنا لاستمرار سياسة التوافق مع النواة الصلبة لمنظومة الحكم.

ترشيح مورو قد يكون أقل الخيارات كلفة وأخفها تأثيرا سلبيا على قواعد "النهضة" في الانتخابات التشريعية

وبصرف النظر عن حظوظ مرشح "النهضة" في الوصول إلى الدور الثاني وفوزه ضد مرشح المنظومة القديمة، فإن "النهضة" قد ضمنت بترشيحه عدم تشتت أصوات قواعدها أو تمرد القواعد على قرارات قيادتها، كما أنها ضمنت عدم وصول مرشحي المعارضة إلى الدور الثاني، بحكم تشتتهم وبحكم تعويل أغلبهم على قواعد حركة "النهضة" للمرور إلى الدور الثاني.

بترشيحها للأستاذ عبد الفتاح مورو للانتخابات الرئاسية، استطاعت حركة "النهضة" أن تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. فهي قد ضمنت تحشيد قاعدتها الانتخابية وضمان تماسكها في الانتخابات التشريعية. كما أنها برفضها تزكية أي شخصية من شخصيات المنظومة القديمة تكون قد أثبتت لقواعدها أنها على مسافة من تلك المنظومة، وأنها لم تتماه معها رغم سياسة التوافق، ولكن "النهضة" بهذا الترشيح تكون قد خدمت منظومة الحكم أيضا، وذلك بحرمان المعارضة الوطنية من خزّانها الانتخابي، مع علمها المؤكد بأن وصول مرشحها للدور الثاني يعني بالضرورة إعادة تشغيل مبدأ "الانتخاب المفيد"، الذي سيجعل انتصار مرشح المنظومة القديمة في حكم المؤكد.

آفات المشهد السياسي

ختاما، فإننا لو أردنا اختزال "آفات " المشهد السياسي التونسي الذي ينذر بإعادة إنتاج منظومة الحكم نفسها مع بعض التعديلات الشكلية، فإننا نردها إلى ثلاث آفات كبرى: أول الآفات قرار "النهضة" بالتطبيع مع منظومة الحكم واعتماد سياسة التوافق دون "معيار" ثوري أو حتى إصلاحي.

أما الآفة الثانية تشتت المعارضة الاجتماعية وعجزها عن بناء خط ثالث يتجاوز اليمين (بشكليه العلماني والنهضوي) واليسار الثقافي، الذي هو مجرد طابور خامس لمنظومة الحكم رغم كل ادعاءاته.

وتتمثل الآفة الثالثة في كفر اليسار الثقافي (الاستئصالي) بفكرة الكتلة التاريخية وارتداده عن فكرة الصراع الطبقي وإصراره على إدارة الصراع السياسي على أساس ثقافوي بائس. وبوجود هذه الآفات الثلاث، فإن تعديل المشهد السياسي التونسي سيبقى استحقاقا مؤجلا، وستبقى النواة الصلبة للحكم مهيمنة على مقدرات البلاد المادية والرمزية، بصورة ستجعل من "الجمهورية الثانية" مجرد مجاز لا حقيقة تحته.

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • عربي 21
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

قراءة سياسية في عبادة الصيام

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …