ثمة حالة نفسية عامة، تنتشر بازدياد، تذكرني بأبيات أبي الحسن النوري:
إلى الله أشكو طول شوقي وحيرتي ** ووَجْدِي بما طالت عليَّ مَطالِبُه
فيا ليت شعري ما الذي فيه راحتي ** وما آخر الأمر الذي أنا طالبه
والأبيات خير معبر عن ذلك الحنين والافتقاد والانكسار والفجوة، الذين لا تكاد تخلو منهما نفس مهما تقلب بها الحال أو حازت من منال، والإشكال في تلك المشاعر حين تتحول في الوجدان من ضيف عابر لنازل مقيم، ولعلك حين تسأل نفسك سؤال النوري:
- ما الذي فيه راحتي، وما آخر الأمر الذي أنا طالبه؟
يتكشف أن الجواب متعذر؛ لأنه لا تصور حقيقي عندك لمعنى الراحة التي تنتظر الوصول إليها، أو أن التصور الذي تنتظره في خيالك لا أصل له في الواقع، أو أن الانتظار في حد ذاته يصلح حيناً دون حين لا كنهج حياة على الدوام، أو لأنك لا تدري حقيقة ما أو من ذاك الذي تطلبه.
وكل مُفتَقَد عند أحد موجود عند غيره، لكن يظل القلق واضطراب الوجدان قاسماً مشتركاً بين الجميع بدرجة ما، فالأعزب يرجو الزواج، والمتزوج يرجو الأبناء، وذو الأولاد يرجو الخلاص، والعاطل يرجو العمل، والعامل يرجو تغيير عمله، والموسّع عليه يشقيه الكثير، والمقدور عليه يضنيه القليل.
ترى، ما الحد الفاصل بين الطموح والطمع؟ وما الشعرة الفارقة بين الرضا والركود؟ ما الحياة الطيبة؟ وما الطيّب في الحياة؟ ما الذي يستحق الحرص عليه؟ وما الذي يمكن التخفف منه؟ من الذي يُرتجى قربه ولماذا؟ وما الذي ترجوه من ذلك القرب؟
ثمة أسئلة وجودية اضطرارية لا بد أن يجيب عنها كل فرد بنفسه لنفسه ليستقيم له وجوده على طريقة، قبل أن يشتغل بفلسفة المتفلسفين عن نظريات الوجود.
ثمة أمور لا بد أن تتعلمها، ومعارف لا بد أن تعرفها، وأساسات لا بد أن تقيمها لنفسك، لتصوغ لحياتك أنت معنى شخصياً عملياً قبل أن تلتهي بحيوات الآخرين ومعانيهم، وقبل أن تنصّب نفسك قائداً وقدوة بين ظهرانيهم.
لكن المصيبة أننا اليوم في عصر الشغل والمشغولين، الكل مشتغل بكل شيء إلا ما يصلحه على الحقيقة وينفعه على الخصوص ، والكل لا وقت عنده ولا مساحة لديه للبسيط والبديهي، فلا عجب أن تكون هذه النفسيات هي المحصلة الهزيلة لتلك الدوامات الهزلية، وإذا كان كلٌّ يعمل على شاكلته... فما شاكلتك أنت؟
وإذا لمْ تكن تعرفها اليوم كما لم تعرفها بالأمس ولا قبل الأمس... فليت شعري ما الذي سيعرفك بها غداً أو بعد غد أو بعد عام أو عمر.
حتام نرضى العيش بأنفاسنا خارج نفوسنا، ونقحم أنفسنا في كل الأوطان إلا الوطن الوحيد الذي بين جنبينا!
حتام نظل نحوم حول الحياة خائفين من خوض الحياة، إلى أن تكون المخاضة التي نخوضها حتى نهايتها أخيراً هي حفرة القبر.
ومع أن طوق النجاة دائما منا قيد شبر، لكننا نجد دائما المبرر للتكاسل عن مد أيدينا إليه، ونصر على الاستمرار في الخبطِ خبط العشواء، وننحي باللائمة على نواقص الظروف والأحوال والناس، وما فوق ذلك.
مع أن طوق النجاة دائما منا قيد شبر، لكننا نجد دائما المبرر للتكاسل عن مد أيدينا إليه، ونصر على الاستمرار في الخبطِ خبط العشواء، وننحي باللائمة على نواقص الظروف والأحوال والناس، وما فوق ذلك
لذلك يتكدر الكثيرون عند الكلام عن المسؤولية والجدية في الحياة؛ لأن أول ما يخطر ببالهم تصحيحه هو مواعيد النوم وقوائم الأهداف وكمُّ الإنجازات... إلخ. والحق أن أول المسؤولية وأوسطها وآخرها، ورأس الجدية وقلبها وروحها، هو ضبط صلتك المباشرة بالله تعالى في العبادات العينية التي تُؤدى منك أنت، ولا يفي بها عنك سواك، ولا يكون أطراف صلتها إلا أنت وربك مباشرة.
فلا يمكن بحال أن يستقيم لك الحال، مهما كانت الشعارات والنوايا التي تُعلنها ظاهراً، إذا كان أول ما تقبل على ضبطه والعناية به مختلف فرائض الكفاية، المتعلقة أو المتضمنة للناس ومختلف صور المنجزات المجتمعية.
العلم عبادة، والعمل عبادة، ونفع الناس عبادة... صحيح، لكنها تالية لعبادة أساسية هي المنبع ورأس الأمر كله: "عبادة الله هي العبادة".
فمن لم يكن يجد ربه في العبادات المباشرة تجاه ربه، من الصلاة والصيام والقيام والذكر والقرآن، أنّى يجد ربه على الحقيقة في العبادات المتخللة وسط الناس !العلم عبادة، والعمل عبادة، ونفع الناس عبادة... صحيح، لكنها تالية لعبادة أساسية هي المنبع ورأس الأمر كله: "عبادة الله هي العبادة"
من لم يجد ربه في الصلاة على وقتها (عبادة مفروضة) أنى يجده في العمل للكسب الحلال (عبادة مشروعة).
من لم يجد ربه في جهاده لبر والديه على علاتهما (خلاف هواه) أنى يجد ربه في تصدر مجالس الأقران والأصحاب بالدعوة والتذكرة (على هواه).
من لم يجد ربه في مكابدة التركيز في صفحة القرآن بدون سرحان في خواطر النفس وأحلام اليقظة (مسؤولية فردية) أنى يجده في مكابدة التركيز في مجالس العلم وسط لطائف المعلم وطرائف الصحبة (أجواء جماعية).
إن من لا يعتني كفاية أو يصبر بإصرار على عبادة ربه في العينيات التي قرر ربه أنه لا يؤديها عنه سواه، ويغرق بكليته في العبادات الكفائية التي يوقف الله آلافا غيره يؤدونها بأمره - إذا شاء - كما أوقفه هو، فإنه لم يجد ربه على الحقيقة مهما خُيل له ذلك، وإنما وجد نفسه التي تسوّل له بترقيع آيات وأحاديث أنه وجد الله "تبعاً" أو "فرعاً"، وشتان بين الأصل والفرع، والله تعالى يعبد أصلاً لا فرعاً.
إن من لا يعتني كفاية أو يصبر بإصرار على عبادة ربه في العينيات التي قرر ربه أنه لا يؤديها عنه سواه، ويغرق بكليته في العبادات الكفائية التي يوقف الله آلافا غيره يؤدونها بأمره - إذا شاء - كما أوقفه هو، فإنه لم يجد ربه على الحقيقة مهما خُيل له ذلك
لذلك فإن من خالف هواه ففرّغ نفسه لإقامة الأصل في حياته، ستستقيم له الفروع لاحقاً تلقائياً وبانسيابية على المدى مهما طال ، وإن قُبِض قبل ذلك يرجى أنه على خير، ومن تلهى بغير ذلك من حظوظ النفس المتلبسة سيعيش في تخبط وتيه ونكد وكدر، وينساب العمر من بين أصعابه في أيادي من حوله، وهو مغرور بثنائهم وانتشائه الشخصي بإنجازاته المتسترة وراء تواضع "ربنا يتقبل"، ويده هو فقيرة أو صفر تماماً من الخير الذي ينفعه.
إذا كنت ترجو فعلا أن يتقبل ربك، فأقبِل على ربك، في نفسك بنفسك، وها هنا ستجد راحتك.