شهدت السنوات الأخيرة حالة واسعة من الانتشار والهجرات لأعداد بالملايين، إن لم تكن كذلك بعشرات الملايين من المسلمين، عربًا وغير عربٍ، من بلادهم، استجابة لعوارض وأزمات عدة، سواء اقتصادية أو سياسية أو أمنية.
ومن خلال خريطة مقارنة للأزمات ومسارات الهجرة من بلدان العالم العربي والإسلامي، منذ الثمانينيات وحتى الآن، سوف نقف أمام معلمٍ شديد الأهمية لها، وهو التعدد الكبير في عدد البلدان، وبالتالي تعدد المجتمعات والثقافات التي خرجت منها موجات الهجرات هذه.
فمن أفغانستان في الثمانينيات ثم الصومال والعراق ومناطق الأكراد في التسعينيات، أُضيفت الآن إليها سوريا وليبيا واليمن وباكستان، ودول المغرب العربي، إضافة إلى مناطق تقطنها مجموعات مسلمة في أواسط وجنوب أفريقيا.
وأعاد هذا الملف طرح قضية لم تُحسم إلى الآن، وهي كيفية التعامل مع مفردات العالم المعولم من حولنا.
وتشمل هذه الإشكالية طائفة من الأشياء المختلفة والمتباينة في نوعيتها، فمنها ما يتعلق بالسياقات العامة لحياة المسلم، ومنها ما يدخل في صُلب الحياة اليومية له، بما في ذلك عباداته وطعامه وتواصله مع الآخرين.
وهذا الأمر يختلف كثيرًا عن قضية "فقه الأقليات المسلمة" الذي بدأ يحوز الاهتمام منذ الثمانينيات الماضية.
فقضية فقه الأقليات المسلمة ارتبطت بنتاج بشري مختلف عن النتاج الحالي؛ فوقتها ارتبط الأمر إما بمسلمين جددٍ من أبناء المجتمعات المحلية -وهؤلاء من أبناء هذه البيئة فعلاً- أو بنوعيات معينة من المهاجرين على قدر من الفهم والخبرة والتأهيل؛ فمتطلباتهم لن تزيد كثيرًا عن قضايا من نوعية التعامل مع مفاهيم مغايرة للطبيعة المحافظة لمجتمعاتنا العربية والمسلمة، مثل الاختلاط، أو قضية صوم رمضان في المناطق القريبة من القطب الشمالي، والتي لها خريطة زمنية مختلفة... وهكذا.
أما في السنوات الحالية؛ فإن موجات الهجرة واللجوء تضم طائفةً واسعة من الشرائح الإنسانية، والتي يغلب عليها طبائع تجعل من الصعب للغاية عليهم الاندماج والتعايش في مجتمعات الهجرة واللجوء، مثل ضعف التعليم، وتردِّي المستوى الثقافي.
موجات الهجرة واللجوء في السنوات الحالية تضم طائفةً واسعة من الشرائح الإنسانية، والتي يغلب عليها طبائع تجعل من الصعب للغاية عليهم الاندماج والتعايش في مجتمعات الهجرة واللجوء، مثل ضعف التعليم، وتردِّي المستوى الثقافي
بل وحتى منهم من أتى من بيئات باديَّة، فتغيب عنه التصورات الأساسية لحياة المدينة العادية، بفعل الحروب والمجاعات، ولا يعرف اللغة العربية نفسها أو لغات مجتمعات الهجرة واللجوء، بالشكل الذي يمكِّن الدعاة من التفاهم معهم.
وبالتالي فإن هؤلاء بحاجة إلى نمط مختلف من التعامل من جانب الدعاة والعاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة، من أجل تأهيلهم للتعامل مع مفردات الحداثة والعولمة في المجتمعات التي يعيشون فيها.
وهذه القضية تعدّ امتدادًا لإشكالية ظهرت مع ظهور الصحوة الإسلامية المعاصرة، والتي تزامنت مع تصاعد خطاب العولمة والحداثة وما بعد الحداثة، والذي أخذ مساحة كبرى من اهتمام المدارس الفكرية المختلفة حول العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، وحالة الانفتاح العالمي التي رافقت تفكيك الستار الحديدي، وظهور شبكة الإنترنت ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة.
وهنا فإنه من الأهمية بمكان هنا التأكيد على حقيقة للتمييز بين الإسلام وواقع المسلمين، وعدم تحميل الدين الحنيف والشريعة الإسلامية مسؤولية تخلفنا وتخلف مجتمعاتنا ، وهي أن الإسلام هو أكثر العقائد والأيديولوجيات التي ظهرت على وجه الأرض، دعمًا وإسناداً لقيم المدينية التي تشمل طائفة واسعة من الأخلاقيات والسلوكيات التي تتباهى بها الحضارة الغربية المادية في عصرنا الحالي.
وهناك بعض الإشارات التي وردت في كتب الحديث، تقول بمساواة الإسلام لحكم العودة إلى البداوة مع حكم الرِّدَّة، وإن احتفظ المرء بإسلامه.
ويستند ذلك الحكم إلى حديث لسهل بن أبي حثمة عن أبيه - رضي اللهُ عنهما - قال فيه: سمعت النبي - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - على المنبر يقول: "اجتنبوا الكبائر السبع"، فسكت الناس فلم يتكلم أحدٌ فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "ألا تسألوني عنهن؟ الشرك بالله، وقتل النفس، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنة، والتعرُّب بعد الهجرة" [أخرجه الطبراني في "الكبير" (6/ 103) وحسَّنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2244)، وبوَّب عليه: باب "التعرُّب بعد الهجرة من الكبائر"].
ومَرَدُّ هذه الإشارة، هي أن نوعية المهاجرين واللاجئين القادمة من بقاع عالمنا العربي والإسلامي المختلفة، نقلت صورة ذهنية سلبية عن الإسلام، والمعين الحضاري العظيم الذي تقدمه الشريعة.
وبالرغم من أن هذا ليس ذنب هؤلاء المهاجرين واللاجئين، بل إنه ذنب قرون طويلة من الاستعمار وعقود طويلة من الحكم المستبد الغاشم الفاسد الذي جرَّف الشعوب حضاريًّا، إلا أنه تبقى حقيقة أن هذه صورة ذهنية قائمة، أي أنها مشكلة موجودة يجب التعامل معها، وبالتالي فإن هناك مهمة على أكبر قدر من الأهمية بالنسبة للدعاة والعاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة.
وهذه المهمة لها جانبان:
الأول/ هو تأهيل هذه المجموعات الوافدة إلى بيئة اجتماعية وثقافية وسياسية هي التي أسست - أصلاً - لأفكار الحداثة ومفردات العولمة وما يرافقها من انفتاح عميق.
والثاني/ هو تصدير صورة ذهنية إيجابية للمجتمعات المُسْتَضيفة عن الإسلام، ومطالبتهم بالتمييز بين المحتوى الحضاري للإسلام – وهو ما يثبته التاريخ الطويل للإسهام الحضاري للمسلمين، ويعلمه الغرب جيداً – وبين حال المسلمين ومآلهم لأسباب عديدة، من أهمها دور الاستعمار الغربي.
وفي حقيقة الأمر، فإنه ينبغي هنا الاعتراف بأنه بالرغم من العمق الزمني لإشكالية كيفية تعامل المسلمين مع الحداثة ومرحلة ما بعد الحداثة، والعولمة، وبالرغم من أهميتها – لأنها صُلب الدعوة بالمعنى الحرفي للكلمة، وصنو عملية تصدير صورة الإسلام الحقيقية – إلا أنه إلى الآن لم يصل المفكرون المسلمون ولا المؤسسات والأكاديميات الإسلامية، سواء الرسمية منها، مثل الأزهر الشريف، أو التي أسستها بعض الحركات والجماعات التي تبنت العمل الإسلامي نشاطًا لها، إلى صورة شاملة لكيفية التعامل مع هذا الموضوع.
بالرغم من العمق الزمني لإشكالية كيفية تعامل المسلمين مع الحداثة ومرحلة ما بعد الحداثة، والعولمة، إلا أنه إلى الآن لم يصل المفكرون المسلمون ولا المؤسسات والأكاديميات الإسلامية، سواء الرسمية منها أو التي أسستها بعض الحركات والجماعات التي تبنت العمل الإسلامي نشاطًا لها، إلى صورة شاملة لكيفية التعامل مع هذا الموضوع
بكل تأكيد، لا يمكننا بحال أخذ كل المُنتَج الحضاري الغربي الحداثي المُعَولَم؛ لأن فيه ما يخالف صميم المنظومة العقدية والأخلاقية للإسلام، وبالتالي فإن استنساخ هذا المُنتَج بالكامل سوف يأتي على هويتها، وسوف يتحول المسلمون إلى مسخ أو صورة مهزوزة غير واضحة المعالم.
ولكن من ناحية أخرى، فإنه لا يمكننا تجاهُل فيوضات الحضارة الغربية في مجالات مهمة، لو أننا تجاهلناها سوف نظل في مرحلة ضعف، وبالتالي استهداف مستمر، مع عدم قابلية من لَدُنَّا كمسلمين التصدي لموجات الاستهداف هذه التي شملت كل أدوات الحرب الحضارية، حتى العسكري منها.
وبالتالي فإننا بحاجة إلى منظومة فكرية وحركية تعمل - أول ما تعمل - على أولوية إعادة التأهيل، وثانيًا معالجة مشكلة مهمة للغاية، وهي كيفية الأخذ من متون ومنتجات الغرب في مختلف المجالات ، نحن بحاجة إلى أخذ الطب منهم، ولسنا بحاجة إلى أخذ فلسفاتهم الإلحادية. إذًا فلنأخذ الطب، ونترك الفلسفات الإلحادية.
وهي كما نرى مشكلة بسيطة للغاية في معالجتها، بالرغم من أهميتها؛ فنحن لدينا نصوص وأصول وقواعد وأركان شريعة، وكل المطلوب منَّا أن نصنع منها مقياسًا إسلاميًّا نقيّا، خالصًا من أية شوائب، بما فيها العادات والتقاليد البالية التي مزجها البعض بالإسلام، ولم ينزل اللهُ تعالى بها سلطانًا، بل وجاء الإسلام لهدمها.
ثم نأخذ هذا المقياس، ونضع عليه كل مفردات الحداثة والعولمة التي نراها، ونأخذ ما يجيزه هذا المقياس، وندع ما يرفضه.
ولكن برغم هذه البساطة الظاهرة، إلا أنه تبقى عقبة شديدة الأهمية تجعل العلماء والدعاة الذين يفعلون ذلك فعلاً الآن يحاربون حربًا صعبة، وصعوبتها تكمن في أن تحدياتها داخلية بين ظهرانينا نحن كعرب ومسلمين، وهي عقبة العقليات الجامدة المتكلِّسة التي هي – كما نعلم – ظاهرة تاريخية واجهتها كل دعوات الإصلاح والتغيير والتطوير الحضاري عبر التاريخ.
وبالتالي فإن نقطة البدء تكمن هناك، عند تلك العقليات!