خلافًا لشائع الظن لدى الكثير من دعاتنا والعاملين في حقل الفكر الإسلامي، فإن مسألة الرد على الملحدين ليست بالأمر السهل.
فهؤلاء يستندون إلى نقطة غاية في الأهمية، بعيدة عن قضية الدليل العقلي والنقاش المنطقي، والتي قد يسهل الدخول منها من خلال بعض الرياضة الذهنية، ولكنه يستند إلى الكثير من الأمور التي توصل إليها العلم المادي في جوانب متعددة من خلق الإنسان والكون.
وهذه القضية هي من أهم ما يمكن، وعندما ناقشناها في موضع سابق من الحديث قلنا إنها من المفترض أن تكون على رأس قائمة أولويات الدعوة والدعاة؛ لوجوب إجراء دراسة -مُحدَّثة بشكل دائم- لمختلف صور الاكتشافات العلمية في الكون وفي الأرض ولا سيما في مجال الأنثروبيولوجي وعلوم الأحياء، ورصد أي تضاد ظاهري يمكن أن يكون بين النصوص القرآنية وبين هذه المكتشفات.
والرسالة القرآنية هنا واضحة، وهي أنه من صميم يقين الإيمان، بل من صميم وصول الإنسان إلى حقيقة وجود خالق ومدبِّر واحد لهذا الكون، هو التأمل في الآيات والسير في الآفاق، يقول تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصِّلَتْ: 53]، وهذا الإجمال فيه الكثير من التفصيل في القرآن الكريم، عن آيات الله تعالى في خلق السماوات والأرض وما ومَن فيهنَّ.
الرسالة القرآنية واضحة، وهي أنه من صميم يقين الإيمان، بل من صميم وصول الإنسان إلى حقيقة وجود خالق ومدبِّر واحد لهذا الكون، هو التأمل في الآيات والسير في الآفاق
ومن بين تلك الآيات، الكيفية التي جاء عليها خلق الإنسان على مستوى البدن ووظائف الأعضاء الظاهرية، ثم الاتساق القائم بين هذا الخلق وسماته، مع أمرَيْن مهمَّين آخرَيْن:
الأول/ هو سُنَّة التسخير، والثاني/ حمل الإنسان للأمانة التي كلَّفه بها اللهُ عزَّ وجل؛ فمن دون طبيعة خلق الإنسان الظاهرية، لن يكون ممكنًا تحقُّق كلا الأمرَيْن.
على سبيل المثال: فإنه مِن بعد العقل، إن أهم علامات تسوية اللهِ تعالى لخلق الإنسان، وأنه خلقه في أحسن تقويم: اليدان، بصورة الخلق والتكوين والقدرة التي عليها، وما يرتبط بانتصاب قامة الإنسان.
هاتان السِّمتان هما أساس كل إنجاز عمراني وحضاري حققه الإنسان، فهو لم يكن ليستطيع الكتابة أو البناء أو الزراعة أو إبداع الفنون (الفن هو كل إبداع إنساني، ولذلك المصطلح في أصله يشمل الآداب كذلك)، أو أي شيء آخر من دون هذا التقويم الإلهي لسمتِه وخلقِه.
بل إنه لولا هذه السمات لم يكن عقل الإنسان ليستطيع أن يفعل أي شيء مما أنجزته الحضارات الإنسانية، فهناك نظرية في علوم الأحياء تقول بأن بعض الحيوانات الدابة (أي التي تدب على قوائم) والتي تملك نسبة ذكاء عالية، ليست غير قادرة على البناء أو إقامة صورة ولو بدائية من المجتمعات الإنسانية المستقرَّة، بل إن مشكلتها –فقط- هي أنها لا تملك في بدنها أدوات ذلك.
وبالفعل فإن هناك الكثير من الحيوانات التي تملك إطارًا اجتماعيًّا، وذكاءً عاليًا، وبعضها بالفعل يستطيع صناعة واستخدام أدوات بسيطة في حياته اليومية -مثل بعض أنواع قرود بورنيو- ولكنها لا تستطيع الوصول إلى مسافة أبعد من ذلك؛ لأنها أولاً لا تملك الذاكرة التراكمية بنفس درجة قدرة الإنسان في هذه الناحية، وكذلك لا يمكنها تطوير سُبُلِ عيشها.
فقطعان الحُمُر الوحشية أو الجاموس أو الغزلان تهاجر بحثًا عن الماء؛ لأنها لا تملك في بدنها أدوات تمكنها من بناء سدود لحفظه وقت موسم المطر لاستغلاله في فترات الجفاف، أما الحيوانات التي منحها اللهُ تعالى القدرة على ذلك -مثل القنادس– والتي تستطيع بناء السدود لحفظ الماء والوقاية منه، وبناء بيوت متواضعة الشكل، تفتقر إلى القدرة الجسدية –لا العقلية؛ لأنها تفعل ذلك فعلاً– التي تمكّنها من عمل شيء آخر أعقَد، مثل بناء البيوت الطينية.
ولكن خِلْقَة الإنسان تمنحه القدرة على كل ذلك، ومع وجود العقل الواعي –أي القادر على الانتباه والإدراك بصورة أكثر تعقيدًا من الحيوان– والذاكرة التراكمية، جعلته في أحسن تقويم، وبات هو المخلوق الوحيد من مخلوقات اللهِ عز وجل القادر على بناء الحضارة والعمران، وتحقيق الاستقرار، وكلها اشتراطات لازمة لأداء رسالته وأمانته التي كُلِّفَ بها، وهي إقامة عقيدة التوحيد، وتحقيق شريعتها وصولاً إلى الإسلام، الدين الخاتم، والشريعة الخاتمة، والدعوة إلى ذلك.
وتراكمية الذاكرة هنا لها مستويان: رأسي وأفقي. رأسي/ أي أنها تراكمية جَمْعية، أي أن الإنسان يملك ذاكرة قادرة على حفظ تراث وتاريخ غيره من نفس الكائن، وتراث وتاريخ باقي المخلوقات الحية وغير الحية، وأفقي/ بمعنى أنها تراكمية زمنية، أي أنه قادر على حفظ تراثه وتاريخه هو وغيره عبر الزمن.
وفي القرآن الكريم ما يؤيد ذلك عن قضية قدرة الحيوان على نقصها، مقابل كمال وتمام خلق وقدرة الإنسان، يقول تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمۚ} [الأنعام: 38]، لكن تبقى نقطة استواء الخلق، هي الفيصل المهم بيننا وبينهم.
وأثبتت الدراسات الأنثروبيولوجية أن تطور الإنسان الحضاري، قد ارتبط بتطور قدرته على استخدام وتوظيف أطرافه من الصور البسيطة والمعقدة منها، بما فيها اللسان؛ لأن تسهيل التخاطب بين البشر من خلال اللسان، ثم الكتابة - التي هي من أرقى صور استخدام اليدَيْن وأكثرها تعقيدًا - ساهم كثيرًا في تحقيق سُنَّة أخرى مهمة وضعها اللهُ تعالى في العمران الإنساني، وهي سُنَّة التعاون بين الناس، وهي جذر مهم لطابع المراكمة في التطور الحضاري.
أثبتت الدراسات الأنثروبيولوجية أن تطور الإنسان الحضاري، قد ارتبط بتطور قدرته على استخدام وتوظيف أطرافه من الصور البسيطة والمعقدة منها، بما فيها اللسان؛ لأن تسهيل التخاطب بين البشر من خلال اللسان، ثم الكتابة ساهم كثيرًا في تحقيق سُنَّة أخرى مهمة وضعها اللهُ تعالى في العمران الإنساني، وهي سُنَّة التعاون بين الناس، وهي جذر مهم لطابع المراكمة في التطور الحضاري
وهذا الخلق هو أحد ضمانات سمة أخرى وضعها الله تعالى للإنسان، وهي الكرامة والتكريم، فَيَدَا الإنسان صنعتا ملابسه التي تستر عورته، ومع استقامة بدنه بنى البيوت التي تؤويه، واستطاع الزراعة، واستطاع توفير الأمن والأمان لنفسه ولغيره، وكل ما نراه حولنا من سمات للحياة الإنسانية في كل صور تجمُّعاتها.
وبالتالي فإن خِلْقَة الإنسان العبقرية، هي أصل تطوره وتحكمه في مفردات الكون من حوله، وبالتالي تحقيق سُنَن التسخير التي شاءتها حكمة الله تعالى.
وكل ذلك يقودنا إلى حقيقة لا مراء فيها عقلاً، وهي أن الخالق موجود وواحد، فهو الذي كلَّف ووضع سُنَّة التسخير، وخلق الأداة لدى المخلوق المقصود بكل هذه الأمور وهو الإنسان.
وهذا الاتساق والتكامل، يؤكد حقيقة وجود الخالق ووحدانيته، وإلا لما استطاعت كل هذه المخلوقات التكيُّف مع مفردات حياتها المحلية وتطوير نفسها، لو أن الأمر خاضع فقط لنظرية التطوُّر التي وضعها داروين.
وسبحان اللهِ تعالى إذ يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].
ويعود بنا ذلك إلى ما قلناه في مفتتح هذا الحديث، وهو ضرورة انشغال العاملين في حقول العمل الدعوي المختلفة بالمكتشفات الحديثة للعلم في النقاط والأمور التي تتماس -على وجه الخصوص- مع النص القرآني؛ لأن ذلك هو المدخل الأساسي والأخطر لمَن أراد الطعن في أساس الدين.
وهنا نموذج شديد الأهمية، ويبرِز مشكلة كبيرة لدى بعض المفسِّرين والمفكرين، سواء المتقدمين أو المتأخرين، ويستند إليهم العديدون في عصرنا الحالي، وهي وجود الكثير من الإسرائيليات التي لا أصل لها في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، وقد صححت أو اعتمدت من جانب هؤلاء، فتصادمت -هذه المقولات- مع مكتشفات علمية لا يمكن نفيها بحال.
الجريمة الأكبر هنا أنه في إطار جمود بعض المدارس الإسلامية المعاصِرة، فإنهم يعُدون النص السلفي التراثي –على تقديرنا له ولجهد أصحابه الوافر في زمانٍ كانت أدوات التوثيق والكتابة من أشق ما يكون– مثل تفسير وشرح العلماء للنص القرآني أو النبوي (مقدس لا يجوز المساس به) بينما ذلك قد يقود إلى هدم بنيان الدين ذاته لصالح أصحاب الأفكار الإلحادية.
على سبيل المثال: لا يوجد في القرآن الكريم أو صحيح السُّنَّة النبوية ما يفيد بتحديد دقيق للفارق الزمني بين نزول آدم -عليه السلام- وبين عصرنا الحالي، أو بيننا وبين زمن سيدنا نوح -عليه السلام- والطوفان، بينما نجد أرقامًا وتقديرات قال بها البعض من دون أي تعقُّل لمجرَّد أن ابن كثير أو غيره قد دوّنها في كتابه.
والآن، أثبت العلم الحديث أن أقرب حدث يمكن أن يكون له أثر مركزي مثل طوفان نوح -عليه السلام- على كامل كوكب الأرض جيولوجيًّا وطبوغرافيًّا كان منذ أربعين ألف عام، بينما يقسم بعض العلماء المسلمين قديمًا وحديثًا، من دون أي دليل لمجرد أن هناك استناد في كتاب أحد المفسِّرين المُعتَبرين، أن نوحًا تفصلنا عنه ما بين 10 آلاف إلى 12 ألف عام.
ونجد أنه عندما حاول الطبري وآخرون تفادي ذلك بمنطق عقلي متقدم، عانوا أشد المعاناة من عَبَدة التراث غير المتعقِّلين، تمامًا كما عانى الإمام الشافعي والإمام الشاطبي وغيرهما، عندما وضعوا النص الشرعي والأحكام في إطار الظرفية والعلل والأسباب.
فعندما خرج بعض العلماء بالقول بأن الطوفان كان حدثًا محلِّيًّا -وليس كوزموبوليتانيًّا- أي لم يشمل الأرض كلها، وأن الفارق الزمني بيننا وبينه غير محدد، كانت النتيجة أنهم قد تعرضوا لما تعرضوا له من عنتٍ.
هذا في قضية واحدة، بينما هناك قضايا أخرى أكثر خطورة وأهمية، مثل قضية خلق الإنسان الآدمي، وعلاقته بالمخلوق الآخر البدائي الذي كان يأخذ سمت الإنسان، وكان يعيش على هذه الأرض، ولكن لهذا موضع آخر من الحديث.
وصفوة القول إنه في مقابل تلك المكتشفات العلمية الحديثة، نجد الخطاب الدعوي التفسيري لما ورد في القرآن الكريم حول هذه الأمور من أضعف ما يكون، وفيه جمود كبير يدخل منه خصوم الدين .
وبالتالي، فإن هناك أهمية قصوى لوضع هذه الأمور كلها في التفكير والتخطيط للأنشطة الدعوية، وتحديثها بما يتواءم مع خطاب وواقع العصر، وبخلاف ذلك فإن هذا يعني جهدًا مهدرًا وبلا طائل، وبأن المساحات التي يتمدد فيها الإسلام في الوقت الراهن، سوف تكون مهددة أمام خطاب يقدس العقل، ويتسلح بالعلم المادي.