كثير مَن تغره قوته أو علمه وغناه، فينسيه تقلبه بين النعم حاله وحقيقة أمره، فينسى أنه من العدم خلق، ومن ماء مهين نشأ، فسواه الله ونفخ فيه، وأمده بكل أسباب الوجود، وسخر له المخلوقات، وفي غمرة هذا كله ينسى الإنسان بدايته ومنتهاه، وأنه عبد ضعيف لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، بل تهيئ له نفسه أن فيه من القدرات ما يستطيع بها أن يفعل ما يشاء وقتما شاء، حسبه إن أراد شيئاً أن يقوم ويباشره بنفسه، فيتم له على أحسن حال، وكأنّ هذه القوة محفوظة في جسده أو عقله متى احتاجها استدعاها؛ ليتحقق له ما يريد.
هكذا هم البشر، فالطالب المجتهد الذي لا محال التفوق نهايته، وقوي العضلات لا يثنيه عن عزائم الأمور شيء ولا يعترض سبيله عارض، هكذا توهّم البعض في أنفسهم وكأن النفس مصباح علاء الدين فيها من القدرات كما في القصص والروايات، ومنشأ الخلل يكون من اعتماد المرء على نفسه والركون لقوته وغناه وعلمه.
فجاءت الحكمة الخامسة والعشرون من الحِكَم العطائية بشرح وتحليل الشيخ البوطي والتي استمدها من كتاب الله وهدي المصطفى؛ ليذكرنا، بل ليضعنا قبالة حقيقة، فيكشف بها الغشاوة التي اعتلت قلوبنا وأبصارنا، ويقف بنا أمام عجزنا وضعفنا وفقرنا، فيقرع القلب والفكر بقوله: "ما توقف مطلب أنت طالبه بربك، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك"، وحكمته تذكرنا بالحقيقة التي لا مراء حولها ولا جدال، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، وهذا الفقر ليس في جانب دون جانب، بل يشمل كل جوانب النفس الإنسانية وحياتها، فنحن ضعفاء في المال والعلوم والطاقة والجهد والصحة، وفي كل ما يخطر ببالك من خاطر، نحتاج دائماً إلى سبب يحركنا ويَد تدفعنا وقيّوم يحفظ علينا ما آتانا؛ فما مكننا فيه الله لا حول لنا ولا قوة من دونه فيه وهو ما يدل عليه الهدي المحمديُّ بقوله: "لا حول ولا قوة إلا بالله" [سنن النَسائي].
نحن ضعفاء في المال والعلوم والطاقة والجهد والصحة، وفي كل ما يخطر ببالك من خاطر، نحتاج دائماً إلى سبب يحركنا ويَد تدفعنا وقيّوم يحفظ علينا ما آتانا
لذا كان لا بد من دوام الاستعانة بالله في فاتحة الكتاب التي لا تصح صلاة إلا بها؛ كما جاء في الصحيحين: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فقد جاء في عمدة التفسير لابن كثير: {إيّاك نستعين} "تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل"، ومن هنا تكمن أهمية الوصية التي أوصانا بها النبي صلى الله عليه وسلم: "استعن بالله ولا تعجز" [صحيح مسلم].
ومما يسنّ للإنسان أن يردد مع المؤذن، حتى إذا بلغ: "حي على الصلاة" يقول المؤمن: "لا حول ولا قوة إلا بالله" [صحيح البخاري]، خمس مرات يرفع بها الأذان، ونقول "لا حول ولا قوة إلا بالله" فنتبرأ من حولنا وقوتنا، والأصل أن يكون هذا التبرؤ راسخاً في النفس والقلب، لا مجرد كلمات نرددها دون فقه معناها ومقصدها ، وتأمل حال الإنسان بضعفه وعجزه وفقره، أين صحته وماذا أغنت عنه عضلاته إن سلبه الله القوة والفتوة، بل ماذا تغني عنه كل أموال الدنيا إن سلبه الله حاسة من حواسه؟ أيعني له الغنى شيئاً إن فقد بصره أو طرفاً من أطراف، إذلو كانت حواسنا وجوارحنا قوته ذاتية غير مستمدة من القوي العزيز لما جرت عليها عوارض الدهر وتقلب الظروف ، ولا استمرار لها إلا أن يأذن الله بذلك، ومن اعتقد أو ظن بغير ذلك فإنما مثلبة أصابت صميم عقيدته.
ويتحدث البوطي في شرح الحكمة العطائية السابقة عن القدرة التي أودعها الله في الإنسان قائلا: "لا توجد في كيان الإنسان قدرة أودعها الله لديه، ثم تركها وتركه لها، فهو يستعملها في شؤونه عندما يشاء، ينبغي أن تعلم أن هذا التوهم خطأٌ منطقيٌ وعلميٌ، بعد اليقين بألوهية الله تعالى وقيوميته على كل شيء، بل إن القدرة تفدُ إليك عند الحاجة الآنيّة إلى استعمالها، ثم تظل تسري في كيانك لحظة فلحظة مع استمرار الحاجة إليها، أي أن رعاية الله للإنسان موصولة به استمراراً، كاستمرار اتصال الأسلاك الكهربائية بالمولد، ولله المثل الأعلى".
وتفكّر كم مرة هممت بصيام أو صلاة أو أي عمل خير كان فخانتك قوتك وقتها، أين كمال جسمك ورتابة أمرك، ومن منا لم يمر بمثل هذه الحالات فيُحال بينه وبين ركعة أو سجدة، وكأن نشاط نفسه وقوة جسمه شعرة سُلت من العجين، إن التفسير الوحيد للحول بينك وبين هذا العمل الذي هممت لفعله إنما يكمن في أن الله تعالى قد قطع مدده وعونه عنك في تلك اللحظة، فلا عجب بعد ذلك أن تجد من المأثورات في الدعاء: "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين" [مسند أحمد بن حنبل].
فالحقيقة الجلية، بل المعتقد الذي يجب أن يرسخ في قرارة النفس فلا يغيب عنا في اختلاف أحوالنا وهيآتنا وظروفنا أن الإنسان إنما يتحرك وينشط بمدد وعون من الله فإذا انقطع عنه هذا المدد انقطعت به كل الأسباب وكل أسباب الأرض لن تغنيه وقتها عن سبب السماء.
إن الإنسان إنما يتحرك وينشط بمدد وعون من الله فإذا انقطع عنه هذا المدد انقطعت به كل الأسباب وكل أسباب الأرض لن تغنيه وقتها عن سبب السماء
فما فائدة الكثرة وما تغني كنوز الدنيا وما نفع عضلات الجسد وذكاء العقل إذا لم يساند هذا كله المدد الإلهي والعون الرباني، فتفكر وقارن بين غزوة بدر وغزوة حنين، وقتها تدرك أن غزوة بدر معجزة خالفت كل الأسباب المؤدية إلى الهزيمة؛ لتكون المعركة الفاصلة والنصر المبين للقلة القليلة؛ لأن العون والقدرة الإلهية لم تفارقهم لحظة؛ وما ذلك إلا لأنّ طلبهم للنصر كان باللّه عز وجلّ؛ فقد كانوا على يقين أن قوتهم لن تحقق لهم النصر بالكم ولا بالكيف، وقد قال جل شأنه فيهم: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، فصدق في حال أهل بدر قول ابن عطاء: "ما توقف مطلبٌ أنت طالبه بربك".
لكن في المقابل، تفكر في غزوة حنين وقد أُعجب المسلمون بقوتهم وعددهم وعتادهم، ومع توفر كل أسباب النصر المحتّم، إلا أن الله -جل شأنه- تركهم في هذه المعركة لقوتهم وتدبيرهم وللأسباب التي أخذوا بها، فما كانت النتيجة إلا أن انقلبت الموازين ودفع المسلمون من أرواحهم وأشلائهم ثمناً باهظاً؛ ليتعلموا ويفهموا الدرس الذي ما كان ينبغي لمسلم أن يغيب عنه أن كل شيء إنما هو باللّه، لا بذاته ولا بتلك الأسباب التي هي بذاتها تفتقر لمن يمدّها بالوجود ابتداء، ومن ثم باستمرارها، وأنه لا معنى لوجودها وأثرها إلا أنّ الله أراد لها أن تكون، فصدق في حال المسلمين في غزوة أحد الجزء الثاني من حكمة ابن عطاء: "ولا تيسر مطلبٌ أنت طالبه بنفسك".
وإذا تتبعت حال مجتمعاتنا منذ عصر الصحابة حتى يومنا هذا، تجد الواقع ومجريات الأمور مصداقاً لهذه القاعدة، وتأمل واقعنا اليوم وقد تعلقنا بأسباب واهية، طرقنا كل الأبواب وخضنا كل السبل ومددنا أيدينا لكل مخلوق فان زائل، لكن باب الله ما طرقناه ولا لذنا بجواره ولا استندنا لركنه، فخلى الله بيننا وبين ما اعتمدنا عليه، فتحقق فينا قول الرسول الكريم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ، قال بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" [سنن أبي داوود].
ومن الجدير التنبيه عليه، أنّ ذلك لا يعني أن نهمل السعي والأخذ بالأسباب أو أن نتجاهل ونترك الوسائل المؤدية لتحقيق الغايات والأهداف، كلا بل على المسلم أن يسعى ويبذل من وقته وجهده وأن يأخذ بكل الأسباب التي سخرها الله له، على ألا يغيب عن عقله وقلبه، ولا يفارق يقينه ومعتقده، أن سعيه وحراكه هذا إنما بقدرة الله ، وأن يستعين في كل خطوة من خطاه بالله وأنّ سيره لتحقيق أهدافه إنما يكون بعون وتوفيق من الله لا غير، فلا قائمة تقوم للإنسان بذاته؛ فهو بربه لا بنفسه، وهو - جل شأنه - الغني الصمد الذي تفتقر إليه الخلائق في كل ذراتها.