إشارات العزة والتمكين في قصة طالوت

الرئيسية » بصائر تربوية » إشارات العزة والتمكين في قصة طالوت
quran

تتخبط الأمة اليوم في بحار من التيه والضياع، وتصارع منحدراً خطيراً نحو الهاوية، وتتجاذبها أيادي القوى الكبرى، ليصبح حالها كما الأيتام على مائدة اللئام، فما شفع لها التقدم الحضاري الذي يعيشه العالم اليوم، ولا زعزع -قيد أنملة- من تردي الأوضاع الذي تشهده مجتمعاتنا على كافة الأصعدة، وما أشبه حالنا بحال بني إسرائيل عندما أعرضوا عن كتابهم، وخالفوا نبيهم، وانسخلوا من عبوديتهم لله ، فكان التيه -في صحراء مترامية الأطراف– يبتلعهم؛ ليذوقوا فيه سوء العذاب ويتجرعوا من خلاله الويلات، فكانت سنة الله في خلقه ماثلة أمام أعيننا، يرويها لنا كتاب ربنا جل شأنه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} [طه: 124]، والقرآن الكريم مليء بالنماذج التي انطبقت عليها هذه السنة، فيقصها علينا -لا ترفيهاً ولا ترويحاً وإنما إشارات ومنارات- لنستدل بها ونعتبر، فلا نتعثر كما تعثر غيرنا، وإن كان لا بد من ذلك فالترياق بين أيدينا وما علينا إلا الأخذ به في عزم وجدية فيتحقق الشفاء.

ورحم الله الإمام مالك إذ يقول: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلُها"، وهل أصلح أول هذه الأمة إلا الهدي المحمدي، وما أوحي إليه به من كتاب ربنا، فكان القرآن الكريم هو المائدة التي يتربى عليها أبناء الأمة، وينهلون منها، ويضبطون على هديها أخلاقهم وأعمالهم ومشاعرهم وسكناتهم وحركاتهم وخلجات نفوسهم أيضاً، فبالقرآن صلحت نفوسهم وعادت للفطرة التي فطرهم الله عليها، وبه تحررت عقولهم من مغبات التقليد الأعمى للآباء والأجداد، وتحرروا من عادات وظلمات الجاهلية العقيمة إلى نور الإسلام وشرائعه السمحة، بالقرآن خرجوا من الظلمات إلى النور، والقرآن وحده رأب الصدع الذي مزقهم، وجعلهم متناحرين، فأعاد لهم وحدتهم، وجمع شملهم، ووحد صفهم، فكانوا على قلب رجل واحد.

التمسك بالقرآن كان سبباً لرأب الصدع الذي مزق العرب وجعلهم متناحرين، فأعاد لهم وحدتهم، وجمع شملهم، ووحد صفهم، فكانوا على قلب رجل واحد

ولكي يتحقق أثر هذا الكتاب العزيز فينا، والذي هو كما وصفه منزله -جل شأنه- بالفرقان والرحمة والنور والإمام والموعظة والشفاء لما في الصدور، وغير هذه الأوصاف التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أنه مصدر الشفاء والسعادة والخروج من الضيق إلى السعة؛ فبه يصلح آخر هذه الأمة كما أصلح أولها، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي" [سنن الترمذي].

فلا بد أن نأخذ به وكأنه اليوم أُنزل علينا، خطابه موجه لنا، فنصيخ له السمع، ونقبل عليه إقبال الظامئ الطالب للري الذي لا حياة مورقة مثمرة إلا بريه وسقياه، لا أن نقبل عليه مجرد تلاوة نعتني بحروفه دون أن نقيم أحكامه وحدوده، نقبل عليه كدستور فيه معالم الإصلاح لكل أنظمة حياتنا كأمة وأفراد، نعرض عليه أوجاعنا وآلامنا ومشاكلنا -كميزان دقيق- لنستخلص منه الأدواء والحلول، لا أن نقرأه ككتاب تاريخ نستطلع به أخبار السلف للمتعة والترفيه، وفي هذا المعنى يقول سيد قطب في مقدمة تفسيره لقصة بني إسرائيل مع طالوت: "وسنجد عندئذ في القرآن متاعًا وحياة؛ وسندرك معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، فهي دعوة للحياة الدائمة المتجددة، لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ".

ومن الأساليب التي اعتمدها القرآن الكريم في تربية الفرد والمجتمع (الأسلوب القصصي) والقصص في القرآن إنما هي نماذج واقعية حية تدور أحداثها في حقبة زمنية معينة -لا ضرباً من الخيال- ويسلّط الضوء في هذا الأسلوب على جانب معين من شأن القارئ المتفكر أن يأخذ منه العبرة والعظة، بل ويجعله الأثر الذي يقتفيه ويحذو حذوه لإصلاح نفسه، والرقي والنهوض بها وبمجتمعه من سفاسف الأمور إلى معاليها، فلا عجب أن تجده يعرض عن بعض التفاصيل التي لا تؤثر على خلاصة الأمر وغايته.

ومن النماذج الحية التي عرضها لنا القرآن الكريم قصة بني إسرائيل مع طالوت، وهي قصة كما يصفها الدكتور صلاح الخالدي: "فيها دروس للدعاة في التعامل مع الآخرين، ودروس للمصلحين الذين يريدون تغيير الواقع السيئ الذي تعيشه الأمة، ودروس للمجاهدين الذين يعملون على تبديل الذل إلى عزة، والهزيمة إلى نصر، ودروس الذين يعتمدون على الجماهير ويصدّقون اندفاعهم وحماستهم، ويضعون على أساسها خططهم وبرامجهم، فتتخلى عنهم الجماهير وقت الحاجة" [مع قصص السابقين في القرآن].

ومن أهم الدروس والعبر التي نستخلصها من هذه القصة:

1. اختيار القائد إنما يقوم على موازين ومعايير أهم من المال والجاه والسلطان، فتأمل قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247].

2. انتفاضة العقيدة في القلوب ويقظة الشعور في نفوس أهل التدين والعقيدة بأنهم أهل حق ودين، وأن عدوهم على ضلالة، يؤدي هذا إلى الفورة والحماسة بضرورة القتال في سبيل الله، ولا بد للقادة من التثبت وعدم مجاراة هذه الحماسة فيعرضوها على التجربة قبل التوغل والمخاطرة بخوض غمار معركة إثر فورة وتأجج المشاعر؛ إذ إن كثيراً من هذا التأجج سرعان ما يخبو وتنطفئ جذوته عند أول محك، تأمل موقف نبي بني إسرائيل - عندما طلبوا منه القتال- في قوله تعالى: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة: 246].

لا بد للقادة من التثبت وعدم مجاراة حماسة الناس فيعرضوها على التجربة قبل التوغل والمخاطرة بخوض غمار معركة إثر فورة وتأجج المشاعر؛ إذ إن كثيراً من هذا التأجج سرعان ما يخبو وتنطفئ جذوته عند أول محك

3. فما إن فرض عليهم القتال حتى تولوا إلا قلة منهم: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 246]، فكان لا بد من اختبار آخر يمحص هذه القلة قبل خوض غمار المعركة، فكان اختبار الشرب من النهر لتوضع هذه القلة المتبقية على المحك وتُمحص، فيسفر الاختبار عن سقوط آخر، ولم يتبق إلا القلة القليلة: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ} [البقرة: 249].

4. حنكة القائد ومعرفته بالنفس الإنسانية؛ فهو لم يطلب منهم الامتناع التام عن شرب الماء، إذ لا بأس بقدر قليل منه، وقد قيل إن أردت أن تُطاع فاطلب المستطاع.

5. أن ثمة معايير تتحكم في مصير المعركة تفوق العدد والعتاد، إذ لا يُرهن النصر بالأعداد الكثيرة ؛ فهذه القلة القليلة المتبقية من الأعداد الغفيرة التي بلغت في البداية من أوج الحماسة والشجاعة أن طلبت هي القتال لكنها أدبرت، وثبتت القلة القليلة وعلقت قلوبها بأسباب السماء وجعلت المورد له الاتصال بالله، فقد قال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250]، وهو نفس الانتصار الذي حققته الفئة القليلة في بدر.

إن هذا النموذج الحي -الذي وضعه القرآن الكريم بين يدينا- يستدعي وقوفنا عند تفاصيله، لا سيما وقد تشابهت ظروف وأحوال اليوم بالأمس، فلا بد من السعي الدؤوب لإصلاح القلوب وإعمارها وتربية النفوس وتزكيتها على موائد القرآن؛ فهي جيشنا وخط هجومنا ودفاعنا الأول قبل أي شيء آخر ، فإن تجردت لنصرة العقيدة، وخلت من اتباع الأهواء والشهوات، وتحررت من قيود الجبن، كان ما بعدها سهل المنال، لكن إن تزعزعت القلوب واختلفت، وتنافرت الأرواح، وانقطعت اللحمة فيما بيننا، وأقفرت نفوسنا من الاعتصام بالله وانقطعت أسباب اتصالنا به، وآثرنا حطام الدنيا على الآخرة، فأي ثبات نرجوه وأي نصر نأمله وقد تحقق فينا قوله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" [سنن أبي داوود].

لن يزيد الجبن من أعمارنا والإعراض عن آيات الله وإيثار راحة النفس ودعتها على أمر الله، لن يمنحنا حياة فوق حياتنا، وإنما أعمالنا هي الأثر الممتد لنا بعد رحيلنا، ولن تؤثر كل وسائل التربية الحديثة في أخلاقنا وسلوكياتنا - بل حياتنا كلها - ولن تنصلح أنظمتنا إن لم يكن القرآن الكريم هو المشكاة التي نستضيء بها وننهل من أنوارها .

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • 1. ابن كثير: عمدة التفسير
  • 2. سيد قطب: في ظلال القرآن
  • 3. محمد رشيد رضا: تفسير المنار
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …