يُضرب بفرعون المثل في الجبروت والطغيان والاستعلاء -صفات بعضها أقبح من بعض- فإن كان جبروته قد طال القوم بتذبيح أبنائهم واستحياء نسائهم وتجريعهم الذل والهوان بيد لا ترتجف وعين لا تطرف، إلا أن ذلك لم يقتصر على البشر فقد زاد به الحد في الاستكبار والطغيان أن قال: أنا ربكم الأعلى، كلمات تنبئ عن اجتثاث بذرة الخير في طاغوت عصره وسفاك دماء الأبرياء من الأطفال والنساء بدون منازع.
هذه لمحة بسيطة عن فرعون الفراعنة ورمز الطغيان والجبروت على مدار الأيام المتعاقبة، وفي هذه الظروف والبيئة، قدر الله -العلي القدير- أن تكون رسالة كليم الله موسى -عليه السلام– وهي مهمة فيها من المخاطر ما لا يخفى على بشر؛ إذ سيسير برجليه لحافة الهاوية وهل هناك أشد خطراً من أن تواجه من نصب نفسه إلها يُعبد؛ فالرسالة مدارها وموجزها أنك يا فرعون ما أنت إلا بشر ليس إلا، بل أنت عبد من عبيد الله لله، فالرسالة إذن بمنظور الجبابرة والطغاة طعنة في صميم كبريائهم، بل قل -إن شئت- تقويض لعرش ألوهيتهم الذي نصبوه فوق أعناق العباد جبروتاً وغطرسةً وظلماً.
الرسالة بمنظور الجبابرة والطغاة طعنة في صميم كبريائهم، بل قل -إن شئت- تقويض لعرش ألوهيتهم الذي نصبوه فوق أعناق العباد جبروتاً وغطرسةً وظلماً
وقوام هذه الرسالة التي يحملها كليم الله والتي سيبلغها لفرعون موجه توجيها ربانيا إذ تقوم على اللين فيقول جل شأنه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ} [طه: 44]، ويعلق ابن كثير على هذه الآية الكريمة قائلا: "هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهي أن فرعون في غاية العلو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، وأن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع" [عمدة التفسير/ لابن كثير].
دعوة واضحة المعالم في أسلوبها ومضمونها "قولا ليناً" ولمن؟ ليس لبشر عادي، بل لفرعون مدعي الربوبية سفّاك الدماء مُذل العباد في أشد الصور ذلاً وهواناً؛ فهذه الدعوة بهذا الشكل التي كلف الله بها نبيه الكليم مدرسة وجب على كل غيور وحريص على دينه، بل على كل متصدر للدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقف عندها طويلاً ويرشف من معانيها القدسية، ويتزود من حكمها الربانية، لعله يتسلح بسلاح الأنبياء الدائم -عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم- الذي لم يفارقهم في سلمهم ولا حربهم، فكان القول اللين قوام دعوتهم لم يخرجوا عنه إلا لما اقتضته الضرورة.
وكأن في هذا القول اللين رسالة مفادها: إن كان الجبابرة والطواغيت يذللون أعناق العباد ببطشهم وسيوفهم، فإن دعاة الخير ورسل الهداية للناس سلاحهم اللين والرفق، به يعرضون دعوتهم ويبسطون قلوبهم ووجوههم للناس فيأسرون بذلك قلوب من تبعهم ويفرضون احترامهم على من خالفهم، وشتان بين ما يُفرض بالقوة والبطش وبين ما يُعرض باللين والرفق؛ فإن أتباع الجبروت والبطش سرعان ما ينكصون على أعقابهم ويتفرقون من حول الجبابرة أول ما يرفع عنهم السوط أو أول ما تبدد قوتهم وتزال سطوتهم، لكن من جعل نهجه في الدعوة إلى الله اللين والرفق فإن أتباعهم يلتفون من حولهم، لا لرهبة وإنما لاقتناعهم وذوبانهم في الرسالة التي اقتنعوا بها قلباً وقالباً، والذي يُدّعم ملكه ويعزز سلطانه بكل هذا الجبروت والظلم إنما ليقينه ببطلان ما هو عليه، مقابل ذلك تجد صاحب الحق ثابت الجنان يستخدم بدعوته لين اللسان لا حد السنان؛ لأنّه لا حظ ولا مكسب لنفسه وإنما مكسبه الحقيقي إخراج الناس من عبودية العباد لعبودية رب العباد.
وانظر لقول الله تعالى مخاطبا نبيه الأكرم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَۖ} [آل عمران: 159]، وقوله تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِۖ} [النحل: 125]، وهل هناك بعد كل هذه التوجيهات الربانية شيءٌ أشد وضوحاً، فما بالنا اليوم والكثير ممن يتصدر لدعوة الناس قد جمعت عليه غلظة القلب وغلظة اللسان وكأنه أمن مكر الله من أن تحيق به معصية من المعاصي التي ينهى الناس عنها، فتجده منفراً أكثر منه مبشراً مع أن رسالة المصطفى ظاهرها كما باطنها الرحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]
وتأمل وصيته لمعاذ وأبي موسى - رضي الله عنهما - عندما بعث بهما - عليه الصلاة والسلام - إلى اليمن والتي لا تحتمل اللبس والغموض: "يسِّرا ولا تُعسِّرا وبَشِّرا ولا تُنفِّرا" [صحيح البخاري]
مقابل هذا، قف واسمع وتأمل ممن اعترض دربه داع غليظ القلب سليط اللسان كيف كان سبباً من أسباب نفوره من الدين وكأنه على دين الله أشد غيرة من الله ورسوله، أو كأنّ المدعو أكثر طغياناً من فرعون بجبروته، إنّ الناس -لا سيما العصاة منهم- أحوج ما يكونوا للين القول وسعة الصدر فإذا كان الله -جل شأنه- شديد التوب لمن عصاه يمهله ويفرح بأوبته من رحمته بهم، فهل نكون نحن غلاظاً شداداً ونحن بشر تجري علينا سنة الخطأ فلا نخلو من معصية أو تقصير!
إنّ الناس -لا سيما العصاة منهم- أحوج ما يكونوا للين القول وسعة الصدر فإذا كان الله -جل شأنه- شديد التوب لمن عصاه يمهله ويفرح بأوبته من رحمته بهم، فهل نكون نحن غلاظاً شداداً
حري بالدعاة أن يتريثوا ولا يستعجلوا الثمر بالغلظة والشدة، بل يجعلوا من اللين والرفق المرهم الذي يضعوه على نفوس العصاة فتبرأ وتؤوب لربها، وليجعلوا من الرفق واللين أزاهير قلوبهم التي يفيء إليها الناس في عجاف سنواتهم، ومشاعل النور التي يستضيئون بها في ظلماتهم، واليد الحانية التي تمتد لتنتشلهم من مستنقعات السيئات والمنكرات إذا جذبتهم الشهوات على جنباتها، فينبغي على كل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن لا يفارق الرفق واللين أمره ونهيه فلا يجمع على الناس قسوة المعصية وقسوة الموعظة ، مستحضراً بذلك ما روي عن أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها: "دخل رهط من اليهود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: وعليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله" فقلت: يا رسول الله، أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قلت وعليكم" [صحيح البخاري]، وقوله عليه السلام: "من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير" [سنن الترمذي].
إن كان الرفق واللين مما يُدعى إليه ابتداء إلا أنه لا بد من قوة وشدة نحمي بهما الحق ونفرض من حوله سياجاً وحصناً لئلا يُخترق ويتطاول عليه المتمردون
غير أن من الضرورة التنبيه والإشارة إلى أن الدعوة بالرفق واللين ليست هي الصورة الوحيدة فإن كان الرفق واللين مما يُدعى إليه ابتداء إلا أنه لا بد من قوة وشدة نحمي بهما الحق ونفرض من حوله سياجاً وحصناً لئلا يُخترق ويتطاول عليه المتمردون، ومن صور الشدة والغلظة والتي وجه الله بها نبيه الكريم، نذكر منها:
1. الغلظة والشدة عند إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2].
2. عند ظهور العناد والاستخفاف بالدين، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73]، قال ابن عباس: "أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان وشدّة الزجر والتغليظ" [تفسير القرطبي].
3. الشدة عند ظهور مخالفة ممن لا يتوقع منه، فعن أبي مسعود الأنصاري قال: "قال رجل: يا رسول الله لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضباً من يومئذ".
الدعوة إلى الله بحر، وعلى من يركب موجه أن يكون غوّاصاً ماهراً مقتدياً برسل الله -سبحانه وتعالى- مقتفياً آثارهم، فيتمتع بقدر من الحكمة تمكنه من تمييز حال المدعو ونفسيته وبيئته؛ ليستخدم الوسيلة الأنسب لنصحه وإرشاده، شعاره في ذلك قوله تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].