إن الغيرة من الأخلاقيات الأساسية التي حرص الإسلام على غرسها في نفوس أتباعه، بل وامتدح كل من يتحلون بهذه الصفة بكل ما تتطلبه من ضوابط دون إفراط ولا تفريط.
ولكي تتحقق الغيرة في نفوس المسلمين كان لا بد من وجود سِياج من مكارم الأخلاق مُتمثل في:
- الحياء: الذي هو خلق الإسلام الأول.
- غض البصر: الذي هو من أسمى صفات المؤمنين.
- تحريم الخلوة بالأجنبية.
- حفظ الفرج.
- نبذ الفحش والتفحش.
- النهي عن التبرج والسفور.
- التحذير من التخنث والدياثة.
إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي؛ سداً للذرائع التي تذهب الحياء، وتخمد الغيرة في نفوس المؤمنين، فتنتشر الفواحش، وتعمّ الرذائل، وتتقطع الأواصر، وتنهار القيم، وهنا يضيع المجتمع، بل وتضيع الأمة كلها.
يقولُ الشهيد سيد قطب - رحمه الله: "إن الإسلام يهدفُ إلى إقامة مجتمعٍ نظيف، لا تُهيّجُ فيه الشهوات في كلِّ لحظة، ولا تستثارُ فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، والجسم العاري، كلها لا تصنعُ شيئاً إلاَّ أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون! وإحدى وسائل الإسلام في إنشاءِ مجتمعٍ نظيف، هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع النظري العميق بين الجنسين سليماً، وبقوته الطبيعية، دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف".
أولاً/ تعريف الغيرة
عرًّف الجرجاني الغَيْرة، فقال: كراهة الرجل اشتراك غيره فيما هو حقه.
وقال الراغب الأصفهاني: الغَيْرة ثوران الغضب حماية على أكرم الحرم، وأكثر ما تراعى في النساء.
ثانياً/ أضواء على الغيرة المنضبطة
يقول الإمام الغزالي -رحمه الله- في الإحياء: "الاعتدال في الغيرة: وهو أن لا يتغافل عن مبادئ الأمور التي تخشى غوائلها، ولا يبالغ في إساءة الظن والتعنت وتجسس البواطن".
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: "فالغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى، وهذه الغيرة هي أن تنتهك محارم الله، وهي أن تؤتى الفواحش الباطنة والظاهرة".
قال الخريمي: ما أحسن الغيرة في حينها، وأقبح الغيرة في كلّ حين.
1. الغيرة المنضبطة من طباع الفطرة الإنسانية السوية
لا يعرف معنى الغيرة إلا من ملأ الإيمان قلبه، وفاض بالحكمة عقله، واستقام بمراقبة الله سلوكه، وجعل الخشية نصب عينيه، وحاسب نفسه قبل أن يُحاسب .إن الرجل والمرأة في الغيرة سواء، وإن كانت المرأة بحكم فطرتها أكثر من الرجل في هذا الجانب، لذا وجب فهم ذلك جيداً، وحسن تعهّدها بالنصيحة حتى يستقيم هذا الجانب لديها، وإلا ستكون كالبركان الذي لا يفتر عن إلقاء حممه فتستحيل عشرتها، وتهدد أمن واستقرار أسرتها.
2. الغيرة المنضبطة مِشرط حَجَّام، وليست سيف فارس
إن الغيرة ليست سيفاً مُسلطاً على رقبة الزوجين، ولا خِنجراً في خِصر الأسرة، بل هي كالمشرط في يد النطاسي الماهر الذي يعرف متى وأين وكيف يستخدمه .إن الغيرة المنضبطة تقوِّم المِعوج، وتهذب المائل، وتُقيل عثرة المتعثر، فلا تصيّد للأخطاء، ولا تلصص، ولا تجسس، ولا تخوين، ولا مُباغتة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "من الغِيرةِ ما يُحبُّ اللهُ، ومنها ما يكره اللهُ، فأما ما يحبُّ، فالغِيرةُ في الرِّيبةِ، وأما ما يكره فالغِيرةُ في غيرِ رِيبةٍ" [صحيح الجامع].
عن الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "لا تكثر الغيرة على أهلك، فتٌرمى بالسوء من أجلك".
3. الغيرة المنضبطة لا تتأثر بتأثر العاطفة
إن الغيرة ليست دليل حب ولا بُغض بين الزوجين؛ فقد ينقص الحب وقد يختلف الزوجان أيما اختلاف، ولكن تظل الغيرة بينهما قائمة بباعث الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها.
جاء في "البداية والنهاية" لابن كثير - رحمه الله: أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري -مدينة في إيران- فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تُسفر لنا عن وجهها؛ كي نعلم أنها الزوجة أم لا، فلما صمموا على ذلك، قال الزوج: لا تفعلوا هي صادقة فيما تدعيه، فأقرّ بما ادعت؛ ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها، فقالت المرأة - حين عرفت ذلك منه وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: "هو في حل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة".
زاد الحافظ السمعاني في "الأنساب": "فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يُكْتَبُ هذا في مكارم الأخلاق"!
إن الغيرة ليست دليل حب ولا بُغض بين الزوجين؛ فقد ينقص الحب وقد يختلف الزوجان أيما اختلاف، ولكن تظل الغيرة بينهما قائمة بباعث الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها
4. من الحيوانات من هو أكثر غيرة من بني البشر
لقد عرفت بعض فصائل الحيوانات الغيرة، وتأصلت لديها هذه الصفة بصورة أكبر مما لدى بعض البشر، إن من الحيوانات ما يغار على أنثاه أيما غِيرة ولا يسمح لذكر غيره أن يقترب منها.
عن عَمرِو بنِ مَيمُونٍ -رضي الله عنه- قال: "رأيتُ في الجاهِليَّةِ قِرْدَةً اجتَمَعَ عليها قِرَدَةٌ، قد زَنَت، فرَجَموها، فَرَجَمتُها معهُم" [رواه البخاري].
وجاء في "عيون الأخبار" لابن قتيبة -رحمه الله- قال: قال العرب قديماً: ليس شيء يجتمع فيه الزواج والغيرة إلا الإنسان والقرد.
وجاء في "فتح الباري": ذكر أبو عبيدة (معمر بن المثنى) في "كتاب الخيل" له من طريق الأوزاعي: أن مُهراً أُنزي على أمه فامتنع، فأدخلت في بيت وجُلِّلَت بكساء وأُنزي عليها فنزى، فلما شم ريح أمه عمَد إلى ذكره فقطعه بأسنانه من أصله، فإذا كان هذا الفهم في الخيل -مع كونها أبعد في الفطنة من القرد- فجوازها في القرد أولى. [أنزي من النَّزْو: وهو الوَثَبانُ، ولا يقال إلاَّ للشاء والدَّوابِّ والبقر في معنى السِّفاد والمُوَاقعَة].
اللهم اهدنا لأحسنِ الأخلاقِ؛ فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنتَ، واصرفْ عنّا سيئَها؛ فإنه لا يصرفُ عنا سيئها إلا أنتَ.