تحدثنا في الحلقة السابقة من هذا الموضوع عن الغيرة وتعريفها، ثم سلطنا الضوء على بعض جوانب الغيرة المنضبطة، واتفقنا على أنه لا يعرف معنى الغيرة المنضبطة إلا من ملأ الإيمان قلبه، وفاض بالحكمة عقله، واستقام بمراقبة الله في سلوكه، وجعل الخشية نصب عينيه، وحاسب نفسه قبل أن يُحاسب .
5. الغيرة من أخلاق الجاهلية التي أقرها الإسلام وهذبها
لقد كانت الغيرة في الجاهلية من كمال الرجولة، وتمام المروءة، ولقد بالغ أهل الجاهلية في غيرتهم أيّما مبالغة لدرجة أنهم وأدوا البنات غيرة عليهن، وصيانة لأعراضهن، وحفاظاً على سمعة وكرامة آبائهن.
ومن الشعر الجاهلي الذي قاله عنترة بن شداد في هذا الشأن، قوله:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي * حتى يُواري جارتي مأواها
كم من حرب نشبت بين القبائل في الجاهلية بسبب الغيرة على عِرض المرأة وصيانة لشرفها، وكان من أبرز الأمثلة على ذلك "حرب الفِجَار الثالث" التي كان سببها أن مجموعة من الشباب من "كنانة" قد تحايلوا وكشفوا سوأة امرأة في "سوق عكاظ" فاستغاثت بقبيلتها "آل عامر" وتشيَّعت لكل قبيلة من يناصرونها ودارت بينهم حرب ضروس غِيرة لعِرض امرأة.
ومن شواهد الغيرة في الجاهلية أيضاً: يُحكى أن أعرابياً في الجاهلية زُفّت إليه عروسه على فرس، فقام وعقَر تلك الفرس التي ركبت عليها العروس، فتعجب الجميع من حوله وسألوه عن سرِّ فعله فقال لهم: خشيت أن يركب السائس مكان جلوس زوجتي ولا يزال مكانها دافئاً!
عندما جاء الإسلام لم يهدم صرح الجاهلية بكامله بل أبقى على ما وجده فيه من أخلاقيات حميدة، وهذبها بما يتفق مع روح الإسلام والمجتمع المسلم.
عندما جاء الإسلام لم يهدم صرح الجاهلية بكامله بل أبقى على ما وجده فيه من أخلاقيات حميدة، وهذبها بما يتفق مع روح الإسلام والمجتمع المسلم
• عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "إنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وإنَّ المُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ المُؤْمِنُ ما حَرَّمَ عليه" [صحيح مسلم].
• عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنَّ النبيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا وعِنْدَهَا رَجُلٌ، فَكَأنَّهُ تَغَيَّرَ وجْهُهُ، كَأنَّهُ كَرِهَ ذلكَ، فَقالَتْ: إنَّه أخِي، فَقالَ: انْظُرْنَ مَن إخْوَانُكُنَّ، فإنَّما الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ" [صحيح البخاري].
• عن أم سلمة هند بنت أبي أمية -رضي الله عنها- أنَّها كانتْ عند رسولِ اللهِ ﷺ ومَيْمُونةُ، قالَتْ: فبَيْنا نحن عندهُ أقْبلَ ابْنُ أمِّ مَكتومٍ فدَخَلَ عليه، وذلكَ بعدَ ما أُمِرْنا بِالحجابِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: "احْتَجَبا مِنهُ" فقُلتُ يا رسولَ اللهِ ألَيْسَ هو أعْمَى لا يُبصِرُنا ولا يَعرِفُنا، فقال رسولُ اللهِ ﷺ "أفَعَمْيَاوَانِ أنتُما ألَستُما تُبْصِرانِه" [سنن الترمذي].
• عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال، قال سعدُ بنُ عبادةَ: "لو رأيتُ رجلاً مع امرأتي لضربتُه بالسيفِ غيرَ مُصْفِحٍ عنه، فبلغ ذلك رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – فقال: "أتعجبون من غَيْرَةِ سعدٍ؟ فواللهِ! لأنا أغيَرُ منه، واللهُ أغيَرُ مني، من أجلِ غَيْرَةِ اللهِ حرَّمَ الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، ولا شخصَ أغيَرُ من اللهِ، ولا شخصَ أحبَّ إليه العذرَ من اللهِ، من أجل ذلك بعث اللهُ المرسلين مبشِّرين ومنذرين، ولا شخص أحبَّ إليه المدحَةَ من اللهِ، من أجل ذلك وعدَ اللهُ الجنةَ"، وفي روايةٍ: :غيرُ مُصْفِحٍ. ولم يقل عنه" [رواه مسلم].
• عن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: "ثلاثةٌ لا يدخلون الجنَّةَ: الدَّيُّوثُ، والرَّجِلَةُ من النِّساءِ، ومُدمنُ الخمرِ" قالوا يا رسولَ اللهِ! أما مدمنُ الخمرِ فقد عرفْناه، فما الدَّيُّوثُ؟ قال: "الذي لا يُبالي من دخل على أهلِه" قلنا: فما الرَّجِلَةُ من النساءِ؟ قال: "التي تشبَّه بالرجالِ" [صحيح الترغيب].
• عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن عند رسولِ اللهِ ﷺ جلوسٌ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: "بينما أنا نائمٌ رَأَيْتُني في الجنةِ، فإذا امرأةٌ تتوضأُ إلى جانبِ القصرِ، فقلت: لِمَن هذا؟ قالوا: هذا لعمرَ، فذَكَرْتُ غَيْرَتَه، فوَلَّيْتُ مُدْبِرًا" فبكى عمرُ وهو في المجلسِ ثم قال: أَوَ عَلَيْكَ يا رسولَ اللهِ أغارُ!" [رواه البخاري].
• عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "نهى رسولُ اللهِ ﷺ أنْ يطرُقَ المرءُ أهلَه ليلاً أو يُخوِّنَهم ويلتمسَ عَثَراتِهم" [صحيح ابن حبان].
6. إذا ضاعت الغيرة ضاع الإيمان وضاعت الأمة
لك أن تتخيل مجتمعاً انعدمت فيه الغيرة فلن تجد سوى تيوساً هائجة تلهث خلف نِعاج هائمة .إن المجتمع الذي تضيع فيه الغيرة لن تجد فيه سوى دياثة وخناثة، وتبرج وسفور، وعهر وفجور.
ولن تجد سوى نطاعة وصفاقة.
ولن تجد سوى كرامة مُهدرة وعرض مُستباح.
ولن تجد سوى تقاليد قد ضاعت وقيم قد دِيست.
ولن تجد سوى حرمات مُنتهكة وحدود مُعطلة.
فأي ذل وهوان ووهن وخسران تصل إليه الأمة أكثر من ذلك!
قال ابن القيّم رحمه الله: من عواقب المعاصي أن تطفئ في القلب نار الغيرة.
وقال في الجواب الكافي: "إن أصل الدين الغَيْرة، ومن لا غيرة له لا دين له، فالغَيْرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغَيْرة تميت القلب، فتموت له الجوارح، فلا يبقى عندها دفع البتة، ومثل الغَيْرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلاً، ولم يجد دافعًا، فتمكَّن، فكان الهلاك، ومثلها مثل صياصي الجاموس (أي قرونها) التي تدفع بها عن نفسه وولده، فإذا تكسرت طمع فيها عدوه".
ختاماً:
علينا أن نعي جيداً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6].
وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].
وقوله ﷺ: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه".
لأن خفافيش الظلام تحوم لتفسد على أهل الإيمان إيمانهم، والبوم ينعق ليلبس على المسلمين دينهم، ودعاة التحرر والإباحية والفسق والفجور لن يهدأ لهم بال حتى تكونوا أمثالهم.
إن دعاة التحرر يروجون أن الغيرة دليل على ضعف الشخصية، وقلة التقدير، وانعدام الثقة، وما إلى ذلك من مفاهيم وعبارات وشعارات مغلوطة ما أنزل الله بها من سلطان.
إن دعاة التحرر يروجون أن الغيرة دليل على ضعف الشخصية، وقلة التقدير، وانعدام الثقة، وما إلى ذلك من مفاهيم وعبارات وشعارات مغلوطة ما أنزل الله بها من سلطان
وبسبب هذه المفاهيم المغلوطة يختلط الحابل بالنابل، فتجد الأسرة قد تفسخت وذهب كل فرد منها في طريقه الذي اختاره وارتضاه لنفسه، فهذا يسهر مع صديقاته، وهذه تسافر مع أصدقائها، دون قيد ولا خجل ولا حياء.
وبسبب هذه المفاهيم المغلوطة أيضاً تنهار الأخلاق وتضيع القيم، ويحدث ما لا تُحمد عُقباه من جرائم أخلاقية بشعة تعافها النفس السوية، بل تعافها حيوانات البرية، فالإنسان إذا تجرد من غيرته فقد تجرد من آدميته وارتقت البهائم عليه درجة .
إن الحاجة لخلق الغيرة تزداد في مثل هذه الأجواء التي تزكم الأنوف برائحتها، وتضلل العقول بمفاهيمها.
إن الحصن الذي يجب أن نتحصن فيه من كل هذا السفه هو المحاضن التربوية التي لم تعبث بها أصابع دعاة التحرر، ولم تشوهها النظريات الهدامة، والتي يقوم عليها ثلة مخلصة تغار على دين الإسلام وعلى مستقبل الأمة.