هل خطر على قلوبكم ذات مرة أن للكلمة الجميلة أثراً في الجوارح؟ وأن الكلمة موقف؟ قد يظن البعض أن هذا الكلام ضرب من المجاز؛ ولكنه عين الحقيقة. وسأضرب مثلاً يُثبت ذلك. فلو تأمّلنا أسفار التاريخ وذاكرة الإنسانية، لوجدنا أن تاريخ البشرية -خيره وشره- إنما رُصَّ بالكلمات. وهل اعتلى الخيّرون منابر الخلود إلا بكلمات حوّلوها إلى واقع؟ وما أبلغ الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ. وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ".
إن للكلمة التي نتلفّظها سحراً يفوق كل سحر؛ فهي مفتاح قائلها وترجمانه، فيلقيها مودعاً مكنوناته، فتتخلّق وتتجسّد موقفاً. وكم سجّل التاريخ لنا من آهات المحبين، ومواقف الشجعان، ومناقب الكرام، وتردّد الوجلين! وسأقصر هذه المقالة على كلمتين كانتا بداية أحداث حفظها التاريخ: إحداهما أشعلت حرباً، والأخرى أبكت نبياً. أما الكلمة التي أشعلت حرباً، فكلمة المهلهل التي ألقاها ولم يُلقِ لها بالاً وهو يقتل بُجَيْراً بن الحارث، الذي أرسله أبوه الحارث بن عُبَاد وفي نيته إيقاف الحرب وإبرام الصلح؛ ولكن المهلهل قتله، وقال: "بُؤْ بِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ"، فبلغ الأمرُ الحارثَ فثارت حفيظته، وقال قصيدته الشهيرة:
قُلْ لأمِّ الأَغرِّ تبكي بُجَيراً حِيلَ بَيْنَ الرِّجالِ والأموالِ
وفيها يقولُ:
قَتلوهُ بِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْــــبٍ إنَّ قَتْلَ الكَريــــمِ بالشِّسْعِ غَالِ
قَرِّبَا مَرْبَطَ النَّعامةِ مِنِّي لَفَحَتْ حَربُ وائلٍ عنْ حِيالِ
وبذلك، انقدح أوار حرب البسوس من جديد، ونزفت دماء. فكم يا تُرى من حرب أوقدتها كلمة!
وأما التي أبكت نبياً، فكلمات أرسلتها قتيلة بنت الحارث لمّا قُتل أخوها النضر يوم بدر، فأرسلت أبياتاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - لم تصله إلا بعد مقتل النضر، والأبيات هي:
يا راكباً إنَّ الأُثَيْـــــــــــــــــــــــــــــــلَ مظنَّــــــــــــــــــــــــــــــــةٌ
مِنْ صُبْحِ خامسةٍ وأنْتَ مُوَفـــــــــــــــــــــــــــــَّـــــقُ
أبْلِغْ بـــــهِ مَيْتاً بـــــــــــــــــــــأنَّ تحيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةً
ما إنْ تزال بها النَّجائبُ تخفــــــــــــــــــــــــــــــــــقُ
منّي إليك وعبــــــــــــــــــــــــــــــــــرةً مسفوحــــــــــــــــــــــــةً
جادَتْ لمائحها وأخـــــــــــرى تَخْنـــــُـــــــــــــــــــــــــقُ
فليسمعنَّ النَّضـــــــــــــــرُ إنْ ناديتُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه
إن كان يَسْمــــــعُ ميِّتٌ أو يَنْطِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُ
ظلَّتْ سيوفُ بني أبيـــــــــــه تنُوشُـــــــــــــــــــــهُ
للهِ أرحــــــــــــــــــــامٌ هنــــــــــاكَ تُشَقَّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُ
صبــــــــــــراً يُقادُ إلــــــى المنيَّةِ مُتعبـــــــــــــــــــــــــــــاً
رَسْفَ المُقيَّدِ وهو عــــــــــانٍ مُوثَـــــــــــــــــــــــــــــقُ
أمحمدٌ ولأنت ضِــنْءُ نجيبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ
من قومِها والفحــــلُ فحـــــــلٌ مُعـْــــــــــــــــــــــــــرِقُ
ما كانَ ضَرَّكَ لــــو منَنْتَ وربمــــــــــــــــــــــــــــــــا
مَنَّ الفتى وهو المغيــــظُ المُحْنـــَــــــــــــــــــــــــــقُ
أو كنـــــــــــــــــت قابلَ فديـــــــــــــةٍ فلنأتِيــَـــــــــــــــــــنْ
بأَعَزِّ ما يغلــــــــــــو لديــــــــكَ ويُنْفـــَــــــــــــــــــــــــــــقُ
فالنضرُ أقربُ مَنْ أَســـــــرتَ قرابـــــــــــــــــــــــةً
وأَحقُّهم إنْ كـــــان عِتــــْــقٌ يُعْتـَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُ
فلمّا بلغت أبياتها النبي -صلى الله عليه وسلم- ذرفت عيناه، وقال: "لَوْ بَلَغَتْني وَهُوَ حَيٌّ مَا قَتَلْتُهُ"، وقال: "لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ بَعْدَ اليَوْمِ صَبْراً".
عزيزي القارئ، تأكد أن المجتمع في حاجة إلى صدقك وصدق كلامك، وفي حاجة إلى كلامك الطيب، وجملك الشافية. فتخيّر من الكلام أطيبه، وسجّل لنفسك موقفاً تُحمد عليه، واعلم أنه رُبّ كلمة أحيت أمة، ورُبّ أخرى قتلتها.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- العرب القطرية