الله الصَّمَد

الرئيسية » خواطر تربوية » الله الصَّمَد
tumblr_ooxccqSc6S1rxh3z4o1_1280

تأمل في معنى اسم الله "الصَّمد" في سورة الإخلاص التي نتلوها – غالباً - في كل فريضة استسهالا لا تحققا بمعانيها، تجد في لسان العرب: "وَالصَّمَدُ السَّيِّدُ الْمُطَاعُ الَّذِي لَا يُقْضَى دُونَهُ أَمْرٌ، وَقِيلَ: الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ... وَالصَّمَدُ: مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ؛ لِأَنَّهُ أُصْمِدَتْ إِلَيْهِ الْأُمُورُ فَلَمْ يَقْضِ فِيهَا غَيْرُهُ، وَقِيلَ: الصَّمَدُ الدَّائِمُ الْبَاقِي بَعْدَ بِنَاءِ خَلْقِهِ، وَقِيلَ: الصَّمَدُ الَّذِي صَمَدَ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ أَي الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ شَيْءٌ، وَكُلُّهَا دَالٌّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ...".

فليسائل نفسه كل مؤمن بالله، يردد اسمه الصمد خَمس مرّات يوميا على الأقل: من أول من أهْرَع إليه في حوائجي وأتضرع إليه فيما يصيبني؟ من أكثر من أرجوه وأشد من خافه؟ من أوّل من أستهديه حين أحتار؟ وأشكو إليه -أو أشكوه- حين أتعب؟ وأحمده حين أفرح؟ من هو الصّمد في حياتي؟

إن استعانة المؤمن بربه يجب ألا تكون حلاً بديلاً، أو خطة احتياطية، أو الملاذ الأخير لليائس بعد طرق كل أبواب المخلوقين ، فإن حال الإنسان وطبيعة خلقه تجعله دائماً في افتقار واحتياج، فما لم يصمد لله ويصمد به، سيذل ويضل ويتفرق عليه شمله، وهو يلهث وراء استمداد الثبات والولاية والإنقاذ ممن لا يملك له شيئاً إلا بإذن الله بداية وانتهاء: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً ۚ بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الفتح: 11]، فليكن أول قرعك وأوسطه وآخره على باب ربك الذي لا يغفل عنك، ولا يحتجب دونك، ولا يمل كثرة طلبك، ولا يسأم إلحاحك.

ليكن أول قرعك وأوسطه وآخره على باب ربك الذي لا يغفل عنك، ولا يحتجب دونك، ولا يمل كثرة طلبك، ولا يسأم إلحاحك

تفكّر في قول القائل:

لا تسألن بُنيَّ آدم حاجةً ** وسَلِ الذي أبوابه لا تُحجبُ
اللهُ يغضبُ إن تركتَ سؤاله ** و بُنَيَّ آدم حينَ يُسألُ يغضبُ

وتأمل في هذه الأبيات للمكودي الفاسي:

إذا عَرَضتْ ليْ في زمانيَ حاجةٌ ** وقد أشكلتْ فيها عليَّ المقاصدُ
وقفتُ ببابِ الله وقفةَ ضارعٍ ** وقلتُ: إلهي إنني لكَ قاصدُ
ولستَ تراني واقفاً عندَ بابِ مَنْ ** يقولُ فتاهُ: سيّدي اليومَ راقدُ
[أي يعتذر الخادم عن سيده بأنه راقد أو نائم على ما يمنعه من استقبال الطالب]

واسمع لهذه المناجاة لأبي القاسم السهيلي:

يا مَنْ يَرَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَيَسْمَعُ ** أَنْتَ المُعَدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ
يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا ** يَا مَنْ إِلَيْهِ المُشْتَكَى وَالمَفْزَعُ
يَا مَنْ خَزَائِنُ رِزْقِهِ فِي قَوْلِ (كُنْ) ** امْنُنْ فَإِنَّ الخَيْرَ عِنْدَكَ أَجْمَعُ
مَا لِي سِوَى فَقْرِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ ** فَبِالاِفْتِقَارِ إِلَيْكَ فَقْرِي أَدْفَعُ
مَا لِي سِوَى قَرْعِي لِبَابِكَ حِيلَةٌ ** فَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ
وَمَنِ الَّذِي أَدْعُو وَأَهْتِفُ بِاسْمِهِ ** إِنْ كَانَ فَضْلُكَ عَنْ فَقِيرِكَ يُمْنَعُ
حَاشَا لِفَضْلِكَ أَنْ يُقَنِّطَ عَاصِياً ** الْفَضْلُ أَجْزَلُ وَالمَوَاهِبُ أَوْسَعُ

يا أيها المؤمن بالله، إن كنت حقاً مؤمناً بالله، فإياك أن تمضي في الحياة بذلك الذخر الأعظم والفضل الأكمل، ثم أنت مبتور عنه وعن طلب نوره، كمن لا إيمان له برب يحفظه ولا مالك يتولاه!

وإياك أن تعلن بلسانك الإقرار لله بصفاته سميعاً بصيراً خبيراً، ثم قلبك منها في شك وكفران! وإن قمة الاستغناء أن يكون افتقارك لله وحده وحاجتك إليه رأساً.

وما أعجب قولة أمّنا السيدة عائشة عليها الرضوان في قصة المجادلة -كما رواها البخاري وأصحاب السنن- عندما جاءت الصحابية خولة بنت ثعلبة تشكو زوجها أَوسَ بن الصّامتِ، إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: "يَا رَسُول اللَّه، أَكَلَ شَبَابِي وَنَثَرْت لَهُ بَطْنِي، حَتَّى إِذَا كَبِرَ سِنِّي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك" فَمَا بَرِحْت حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيل بِهَذِهِ الآيَة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] فتقول السيدة عائشة: "سُبَحانَ ربي، وَسِعَ سَمْعُهُ الأصواتَ! لقد جاءتِ المجادِلةُ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم– تُكلمهُ، وأنا في ناحيةِ البيت ما أسْمَعُ ما تقُول!".

وفي رواية: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ كُلّها، إِنِّي لَجَالِسَةٌ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَخَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ تَشْكُو زَوْجَهَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنَّهُ لَيَخْفَى عَلَيَّ أَحْيَاناً بَعْضُ مَا تَقُولُ".

وفي رواية: "تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ..."

تأكد أنك لا تبلغ في عمرك شعور العجز المُقعِد، إلا أن يكون قد سبقه سلسال من الانقطاع عن ولاية الله وحفظِه، بالاشتغال بالملكوت عن الملك، والتفاني في المملوكين دون المالك

سبحان من وسِع سمعه الأصوات، ووسِعَ حلمه الخطايا، ووسع نوره الحيارى، ووسع كل شيء رحمة وعلماً ، وإنما تضيق علينا نفوسنا وتضيق بنا؛ لأننا نمضي في الحياة مبتورين عن نور الله ثم نبكي من استحكام الظلمة وانقطاع البركة، ومستكبرين -أو مستغنين- عن استمداد عونه وطلب ولايته ثم نتضعضع تحت ثقل المسؤولية ووطأة الحِمل!

وتأكد أنك لا تبلغ في عمرك شعور العجز المُقعِد، إلا أن يكون سبقه سلسال من الانقطاع عن ولاية الله وحفظِه، بالاشتغال بالملكوت عن الملك، والتفاني في المملوكين دون المالك؛ فالله السميع، لكننا من يختار أن يسكت، والله المالك، لكننا من يصر أن ينازع، والله القريب، لكننا من يختار أن يبتعد.

تكلم؛ والله سميع، ادع؛ والله مجيب، أكثِر؛ والله أكثَر، كَبِّر؛ والله أكبر.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …