يحلّ علينا شهر محرَّم فلا نملك إلا أن نقف عنده ملياً، نتفكر في سرّ ذلك الوسام الرفيع الذي قلَّده إياه المصطفى صلى الله عليه وسلم وميَّزه به عن سائر الشهور، فقد نسبه إلى الله فسمَّاه شهر الله المحرَّم كما جاء في الحديث: ( سُئلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصلاةِ أفضلُ بعد المكتوبة؟ وأيُّ الصيامِ أفضلُ بعد شهرِ رمضانَ؟ فقال: "أفضلُ الصلاة بعد الصلاة المكتوبة، الصلاةُ في جوفِ الليل. وأفضلُ الصيام بعد شهرِ رمضان صيامُ شهرِ اللهِ المحرَّم). صحيح مسلم
وإضافته إلى الله تدلّ على شرفه وفضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلاّ خواصّ مخلوقاته، كما نسب محمّدا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم إلى عبوديته (وذلك في قوله تعالى: "واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب" سورة ص 45، وقوله "أسرى بعبده" الإسراء1) وقوله تعالى: "وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا" سورة الجن 19، ونسب إليه بيته وناقته (في قوله تعالى: "أن طهِّرا بيتي" سورة البقرة 125، وقوله: "ناقة الله" سورة الشمس 13) ونسب أياماً إليه فقال: " وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ" سورة إبراهيم 5.
ولنا أن نستشعر ذلك الربط المهيب بين زمنٍ ما بالله جلّ في علاه، فللوهلة الأولى -حتى دون الرجوع إلى أي تفاسير أو مراجع لغوية- يقع في النفس عظم شأن ذلك الزمن وخصوصيته، وأن الله ينبهنا إلى الاحتراز من التعدي على تلك الخصوصية بأن نجتهد في جعل كل أوقاته خالصة لله تعالى ذكراً وطاعة وإنابةً وإخباتاً وإخلاصاً له.. ألا نشرك معه أحدا، ألا نظلم فيه أنفسنا (والشرك ظلم عظيم)، أن نُحيل أيامه وساعاته ودقائقه ولحظاته مسجداً نتخذه حجاباً لنا عن الخلق لنخلو بالخالق كي نناجيه ونتذلل في محرابه ساجدين راكعين بقلوبنا وأرواحنا وألسنتنا بشوق من يرجو لقاءه ورحمته، وإشفاق من يخشى غضبه وعذابه، حتى يغدو شهر الله بيتاً لله. تماماً كبيت الله الذي إنما وضع في الأرض ليُعبَدَ الله فيه وحده لا شريك له.
الحديث عن شهر الله يسوقنا سوقاً للحديث عن بيت الله وأجلّ البيوت وأعظمها بيت الله الحرام، وذكره يستدعي ذكر توأميه المسجد النبوي والمسجد الأقصى. إنها بيوت الله لا بيوت أحد من خلقه..
جاء في الظلال للشهيد سيد قطب: "فاتخاذ البيت قبلة للمسلمين هو الأمر الطبيعي، الذي لا يثير اعتراضاً. وهو أولى قبلة يتوجه إليها المسلمون، ورثة إبراهيم بالإيمان والتوحيد الصحيح، بما أنه بيت الله، لا بيت أحد من الناس. وقد عهد الله -صاحب البيت- إلى عبدين من عباده صالحين أن يقوما بتطهيره وإعداده للطائفين والعاكفين والركع السجود -أي للحجاج الوافدين عليه، وأهله العاكفين فيه، والذين يصلون فيه ويركعون ويسجدون فحتى إبراهيم وإسماعيل لم يكن البيت ملكاً لهما، فيورث بالنسب عنهما، إنما كانا سادنين له بأمر ربهما، لإعداده لقصاده وعباده من المؤمنين".
وإذا كان المسلمون -في حاضرهم اليوم- يشدون الرحال إلى بيت الله الحرام والمسجد النبوي، فإن غصَّتهم كبيرة ومأساتهم عظيمة، بحرمانهم من شدِّ الرِّحال إلى بيت الله الأقصى، وإبعادهم عنه، إلا ثلة قليلة متشبثة بأرضه، مرابطة به وبأكنافه، مدافعة عن طهره وقداسته، وعن كونه بيتاً لله ومسجداً، لا هيكلاً لبني إسرائيل أو متحفاً أو مزاراً ومقصداً سياحياً. إنه الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً ببيت الله الحرام باختيار الله لهما أول بيتين له في الأرض، ومحطتي رحلة الإسراء والمعراج لخير الأنام صلى الله عليه وسلم.
إنه الذي ارتبط بخير خلق الله ممن نسبهم الله إليه عباداً كراماً عليه: إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام الذين احتضنت أكنافه المباركة في المسجد الإبراهيمي بمدينة الخليل أجسادهم. وهو الذي ارتبط بخاتم النبيين، إمام المرسلين وسيد الأولين والآخرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي مدحه ربه بوصفه "عبده" الذي أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
إنه كذلك بيت الله الذي مدح الله أولئك الذين طهروه من علو وفساد بني إسرائيل الأول بوصفهم "عباداً" له. "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ" سورة الإسراء (5) وأثنى على الذين سيزيلون الإفساد والعلو الآخر بأنهم سيكونون على نهج الأولين "عباد الله" "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا" سورة الإسراء (7).
إن شهر الله المحرم هو أفضل مدرسة يمكن أن تُخرِّج محرِّري المسجد الأقصى ومطهِّريه من دنس الاحتلال، إنه مصنع الرجال عباد الله أولي البأس الشديد.. ولاعجب فهو شهر يُسَنُّ فيه صيام التطوع وهو من أعظم العبادات التي تُخرِّج الرجال الأشداء الأتقياء الأنقياء، وذلك لارتباطه بطاعة قلبية تجعل من الصيام سرّاً بين العبد وربه، بقوله: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
وسر الصيام يجلّي لنا شيئاً من أسرار شهر الله المحرَّم كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله بقوله: "ولما كان هذا الشهر مختصاً بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصيام من بين الأعمال مضافاً إلى الله تعالى، فإنه ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام" لطائف المعارف صفحة 90-91.
إن مدرسة محرَّم هي مدرسة الصيام التي تربى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أكنافها ففتحوا الدنيا ودانت لهم بها الأرض.. وهذا هو الصحابي الجليل أبو أمامة رضي الله عنه يحدثنا عنها بقوله: قلتُ يا رسولَ اللَّهِ مرني بعملٍ. قال: "عليكَ بالصَّومِ فإنَّهُ لا عِدلَ لَه". سنن النسائي.
إن ذلك مما جعل الشاعر يقول:
شهر الحرام مبارك ميمون
والصوم فيه مضاعف مسنون
وثواب صائمه لوجه إلهه
في الخلد عند مليكه مخزون
ليس بعيداً أن يحظى شهر محرَّم بيوم من أيام الله وهو الذي احتوى بين أيامه يوم عاشوراء وكان يوماً من أيام الله كما وصفه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقوله: "إنَّ عاشوراءَ يومٌ من أيامِ الله" صحيح مسلم.
وعليه فإنَّ الارتباط كبيرٌ وعظيم بين شهر الله المحرَّم وفتح بيت الله الأقصى وليس بعيداً أن نشهد فيه يوماً من أيام الله المجيدة التي ينتصر فيها الحق وأهله ويندحر الباطل وحزبه ويفرح المؤمنون فيه بنصر الله وعودة المسجد الأقصى والأرض المباركة إلى أحضان أمتنا الإسلامية في يوم عظيم هو من أعظم أيام الله التي تنتظرها الأمة بقارغ الصبر.. وعسى أن يكون ذلك قريباً.