1. سلّم دون أن تستسلم
"لا مفر مما لا بد منه"
اجعل هذه القاعدة الحياتية نصب عينيك، تحل لك 90% من إشكالات السياقات المستمرة في حياتك، ووسطك الأسري أحد تلك السياقات التي لا تختارها بداية ولا تملك الانفصام منها نهاية؛ لأنك مقصود بها وفيها، كما هي مقصودة لك وبك.
ومن هنا فإن فأولى درجات التعامل مع واقع ما هي الإقرار بكونه واقعاً (أي وقع بالفعل) والكف بالتالي عن منازعة حقيقة ما هو كائن بالفعل، بالحنين إلى/ أو التذمر مما كان ينبغي أن يكون حقك أو يفترض أن يكون عليه الوضع؛ لأنك بذلك تحجر نفسك عند السخط على ما وقع تحجراً يشلك أن تتعامل معه بوصفه واقعاً على كل حال وكائناً على أي حال، وبإصرارك على أن الأوضاع لا ينبغي أن تكون عما هي عليه، فإنك تُغفِل حقيقة ما هي عليه حقاً ، وبالتالي لا تجد في نفسك العزم ولا الطاقة للتعامل الصحيح معها، فتغرق في دور ضحية أنت الجاني الأول عليها!
والتسليم بالواقع غير الاستسلام للواقع ، التسليم يعني الإقرار بوجود الموجود، فتصرف فكرك وتوجه طاقاتك لكيفية التحكم أو التعامل معه، أما الاستسلام للواقع فهو إنكاره وجدانياً أو معاندته نفسياً بسبب الانهزام أمامه داخلياً، فيستحوذ عليك بدل أن تستعلي عليه، ويتوطن في داخلك بعد أن كان واقعاً خارجك، ويؤدي لمختلف صور الهروب والانسحاب أو العداء والتمرد، وكلها ليست حلولاً للواقع الذي استشكل بل تزيده وتزيدك إشكالات فوق إشكاله الأصلي، فتأمل!
سلّم بواقع أسرتك، وطبائع والديك، وكونهما والديك، فهما قدرك ونصيبك كما أنت قدرهما ونصيبهما، هذا التسليم في حد ذاته يعين على توطين نفسك على تصرفاتهما وموازنة توقعاتك منهما، فيعافيك من الانزلاق لنفس الانفعالات وردود الأفعال معهما كأنهما جديدان عليك.
أولى درجات التعامل مع واقع ما هي الإقرار بكونه واقعاً (أي وقع بالفعل) والكف بالتالي عن منازعة حقيقة ما هو كائن بالفعل، بالحنين إلى/ أو التذمر مما كان ينبغي أن يكون حقك أو يفترض أن يكون عليه الوضع
2. لا تبرح حتى تبلغ
نفاجأ -حين ندعو الله بالصلاح والاستقامة والعون على بر الوالدين- أن الابتلاء قد يشتد وطأة والخلافات قد تكثر، فيثبطنا ذلك ويؤيسنا من صلاحنا وجدوى دعائنا، وما هكذا يكون فهم المسلم عن ربه.
وإنما الفهم الصحيح أن ربك -تعالى- يربيك بما يعرض لك من عقبات، ويهيئ من خلال الإشكالات سياقات تهذيب وإصلاح لك، وقد قرأت مرة مقولة إنجليزية مفادها: "تدعو الله بالصبر فتجد طابوراً في البنك"، فالطابور ليس عقوبة لك لاستنفاد صبرك، بل عونٌ لك على تربية صبرك، هكذا ترزقُ الصبر من خلال التصبّر مع الأشخاص والمواقف والأحوال، لا أنه يهبط عليك رأساً جاهزاً، إذن لو كان كذلك لما استشعرت قيمته، ولما ذقت خلال رحلة التخلق ما يثبتك على خلقه من جهة، وكما أن ثمة أخلاق وهبية يتفضل الله بها عليك من عنده بدون كسب منك، فثمة أخلاق مكتسبة يهيئ الله لك أسباب التخلق بها واكتسابها إذا أصخت السمع للتوجيه الرباني.
نفاجأ حين ندعو الله بالصلاح والاستقامة والعون على بر الوالدين أن الابتلاء قد يشتد وطأة والخلافات قد تكثر، فيثبطنا ذلك ويؤيسنا من صلاحنا وجدوى دعائنا، وما هكذا يكون فهم المسلم عن ربه
في البداية كنت تصيح في وجه أحد والديك أو كليهما، ثم هداك الله فنبتت في قلبك بذرة التنبه لضرورة البر وخطر العقوق من جهتك كابن/ أو ابنة، بغض النظر عن جهتهما كوالد/ أو والدة -وكل محاسب على جهته- فتجد أنك عدت تصيح ثانية، لكنك هذه المرة تصيح وأنت في نفسك غير راض عن مسلكك، وقد كنت سابقاً تصيح غير مكترث ولا شاعر بأن صياحك خطأ وخطر، ثم في موقف تال تصيح ثالثاً ويتبع صياحك تلك المرة ندم، وفي الرابعة ندم أشد وتجديد للتذكرة، وفي الخامسة تهم بالرد ثم تكظم غيظك بصورة، وفي السادسة تتحاشى أسباب الشد والجذب معهما، وهكذا تتكرر المواقف المستشكلة بقدر ما تحتاج لتتعلم وتتربى، حتى تبلغ مرحلة يمكن أن تتقبلهما فيها بصدر رحب أو تمرر لهما ما لا تستحسنه منهما بإحسان منك.
الشأن أن تصبر وتصابر في رحلة المجاهدة لتغيير جهتك أنت ونفسك أنت، وتجمع بين الحزم والرفق في تربية نفسك، فتعود عليها بالتخطئة؛ ليكون باعثاً لها على الإصلاح، وتعطي لها في نفس الوقت مساحة التربية بالتدريج؛ فإن الخطأ لا يكون إخفاقاً إلا حين تقرر أنك لن تتعلم منه ولن تبني عليه.
فلا تبرح حتى تبلغ، وإنك بالغ أمر الله بعون الله، طالما أنك موقن أن ربك ما كان ليضيع إيمانك به وجهادك فيه.
3. استعن بالله ولا تعجز
إن أكبر منافذ التعجيز والتخاذل أن تشعر بأنك غير قادر على الحمل وحدك، ونسيت أنك من البداية لم تؤمر بالحمل وحدك وقد خلقت ضعيفاً، وإن أول منافذ القوة والعزم دائماً من ثَم -في ذلك المفترق وغيره- في كلمتين: "يا رب".
تأكد أنك لا تبلغ في عمرك شعور العجز المعجز إلا أن يكون سبقه سلسال من الانفصام عن استعانة ربك واستهدائه ومناجاته ودعائه واستشارته واستخارته، ذلك أنه لا حول ولا قوة... إلا بالله، ذلك أنه من لم يجعل الله له نوراً... فما له من نور.
إن أكبر منافذ التعجيز والتخاذل أن تشعر بأنك غير قادر على الحمل وحدك، ونسيت أنك من البداية لم تؤمر بالحمل وحدك وقد خلقت ضعيفاً
وما أعجب قولة أمّنا السيدة عائشة -عليها الرضوان- في قصة المجادلة، عندما جاءت الصحابية خولة بنت ثعلبة تشكو زوجها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت في أثرها سورة "المجادلة" التي أوّلها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، فتقول السيدة عائشة: "سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! لقد جاءت المجادِلة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول!" وفي رواية "تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ..." وفي أخرى: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ كُلّهَا...".
إياك أن تمضي في الحياة زاعماً الإيمان بالله ثم أنت مبتور عنه وعن طلب نوره كمن لا رب له، وإياك أن تعلن بلسانك الإقرار لله بصفاته سميعاً بصيراً خبيراً بعباده، ثم قلبك منها في شك وكفران!
أيقن بحكمة الله في صوغ سياقك لك فما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واستحضر وجوب بذل جهدك من جهتك قدر استطاعتك في إصلاح حالك، وأيقن في كل ذلك بعاقبة سعيك عند الله ما دمت ترجو وجهه.
4. أشغل نفسك بنفسك
من حكم مصطفى صادق الرافعي قولُه: "لا يريد الهمّ منك أكثر من أن تريدَه، فيأتي"، كلما أقبلتَ على تربية نفسك وإصلاح حالك، شُغلت بذلك عن تتبع أحوال الآخرين وترصّد عثراتهم، بل أحياناً الانتباه لها، وكلما كبر في حِسّك وقع أخطاء الآخرين، واتسع صدرك ووقتك للتدقيق في زلاتهم تجاهك، فاعلم أنك تعاني من بطالة القلب وفراغه من هم حقيقي، أو من غفلة عن حالك تهرب من مواجهتها، فإلى جانب اشتغالك بإصلاح نفسك وصوغ منهجك في معاملة والديك، أشغل نفسك بجوانبك الأخرى في حياتك (علمياً وثقافياً ورياضياً واجتماعياً) وكلما كانت أشغالك صادقة ومعبرة عنك –لا للهروب من نفسك– أثْرَت روحك وبدنك معاً، فأورثتك سعة في النفس والصدر ينعكس أثرها بالضرورة في التغاضي والتجاوز والتراحم.
5. إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفوراً
قد يفرط منك بين الحين والحين زمام ملك نفسك، فتجد -لسبب ما- أنك عدت من حيث بدأت وانزَلَقت لما كنت عليه تعاليت -أو هكذا يخيل لك- والحق أن الزلل وارد من بني آدم لا محالة، لكن ليس كل حيود عن الطريق يعني خروجاً تاماً عنه، بل كثير من الحيود يمكن تداركه إذا استرد صاحبه الزمام سريعاً ولم يغرق في دراما النواح على ما مضى والرثاء لما وقع ، ولمثل هذه المواقف جعلت التوبة والاستغفار، فلماذا نأخذ بالدين وقت الطاعة وندع العمل به حال المعصية والخطأ؟
وفي شأن معاملة الوالدين خاصة، قال ربنا تبارك وتعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25].
"رَبُّكُمْ) أيها الناس (أعْلَمُ) منكم (بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) من تعظيمكم أمر آبائكم وأمهاتكم وتكريمهم، والبرّ بهم، وما فيها من اعتقاد الاستخفاف بحقوقهم، والعقوق لهم، وغير ذلك من ضمائر صدوركم، لا يخفى عليه شيء من ذلك، وهو مجازيكم على حَسَن ذلك وسيِّئه، فاحذروا أن تُضمروا لهم سوءاً، وتعقِدوا لهم عقوقاً) وقوله: إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ) يقول: إن أنتم أصلحتم نياتكم فيهم، وأطعتم الله فيما أمركم به من البرّ بهم، وتأدية حقوقهم عليكم، بعد هفوة كانت منكم، أو زلة في واجب لهم عليكم مع تأدية ما ألزمكم في غير ذلك من فرائضه، فإنه كان للأوّابين - بعد الزَّلة - والتائبين - بعد الهَفْوة – غفوراً" [الطبري].