“لاءات” تربوية: لا تقارنوا أبناءكم بغيرهم

الرئيسية » بصائر تربوية » “لاءات” تربوية: لا تقارنوا أبناءكم بغيرهم
مقارنة الطفل بالآخرين - لاءات تربوية - لا تقارنوا أبناءكم بغيرهم

من قال إن منافسة الآخرين خيرٌ بالمجمل؟ مثلُها – بل أخطر منها - مقارنة أنفسنا بهم، ومحاولة فعل ما يفعلونه بالضبط.

لماذا أقول ذلك؟ نظرة واحدة استكشافية لما حولنا سوف تخلّف غصة وتكشف كم أبناؤنا تائهون؛ بسببنا وبسبب طرق التربية العشوائية!

بدءاً من خطوط الموضة - التي لم تفلت صبية ولا شاب منها، الكل يسعى لارتداء الصيحة الأخيرة ولو لم تكن تليق به –مروراً بفعل المستحيل؛ لمجرد الاستعراض عبر السوشيال ميديا –في الممتلكات، في التخصصات، في حفلات المناسبات، وغيرها– وليس انتهاءً عند عمليات التجميل التي انتشرت بشكل رهيب في الآونة الأخيرة، بسبب وبدون سبب!

لست أقول إن هذا الأمر سيئٌ كله –وأنا أدعو باستمرار إلى استلهام النجاح من صص الناجحين - لكنني أؤكد على أن التوازن في كل شيء هو مقياس جودة لا يضاهى ؛ ولذلك أكتب ما قرأت وسمعت من آراء التربويين.

مساوئ مقارنة الابن بغيره

تبدأ المساوئ بالظهور على المدى القريب، ولكن أثرها البعيد أصعب وأعقد؛ فقد يهدم حياة الابن بالكامل –في بعض الحالات– وسبب ذلك الأهم هو أن الابن لن يتعرف على ذاته أو ينصت لها ولن يكتشفها أبداً.

يقول الدكتور عبد الرحمن الهاشمي: "إن هناك أسباباً غريزية تجعل الإنسان ينشغل بالآخر عن ذاته، ومنها: الأنس بالآخرين؛ فالإنسان سمّيَ إنساناً؛ لأنه يأنس بالآخرين، ولأنه يحب الانتماء للآخرين -وهذا فطريّ- ولكن السبب الرئيس يرجع إلى أصل التربية، ويبدأ مع الإنسان منذ الصغر، من خلال إشغال الوالدين للطفل بالآخرين، وإهمال لفت اهتمامه إلى ذاته، ثم عندما يبدأ بإدراك حاجاته، ويعي رغباته، يشغله الوالدان بالآخرين".

هناك أسباب غريزية تجعل الإنسان ينشغل بالآخر عن ذاته، ومنها: الأنس بالآخرين ولكن السبب الرئيس يرجع إلى أصل التربية

عندما ينصح الوالدان ابنهما من خلال عملية التربية، يقولان للطفل: ذاكر دروسك؛ لكي يسمعك فلان فيثني عليك، ويقول الناس إنك مميزٌ.

وحين يرغب الطفل باللعب؛ لأنه الفعل الذي يجد ذاته فيه، فيتعلم ويستمتع، تجد الوالدين ينصحانه بأن يهدأ: اجلس؛ ليقول الناس إنك مؤدّب، أو كي لا تؤذي نفسك، كي لا تتسخ ملابسك... إلخ. من التحذيرات التي تؤذي مستوى الوعي بذاته لديه!

وهذا يغير وجهة اهتمام الطفل –منذ طفولته– فينشغل بالآخرين، بدلاً من الانشغال بذاته، وتستمر ممارسات الوالدين على ذات الشاكلة، حتى يصل الإنسان إلى المدرسة، فيبدآن بمقارنة نتائجه بنتائج الآخرين وتقييمه حسبها!

هنا سيربط الطفل نجاحه أو فشله بالآخرين تلقائياً، فيكبر ويصل مرحلة المراهقة وقد تبرمج ذهنياً على مقارنة نفسه بالآخرين، إذا طلب شيئاً؛ فلأنه يريد أن يتشبّه بالآخرين، وحُجَّتُه: ماذا تريدون أن يقال عني؟ أو ما الذي ينقصني كي لا أكون مثلهم!

وفي المرحلة الجامعية، يختار تخصصاً لا يداني رغباته، غير مفكّر بتحقيق ذاته، بل بما يريده المجتمع، وبالمكانة التي ستمنحه إياها الوظيفة، والوجاهة التي يضفيها عليه المنصب.

وعند الزواج يختار شريكاً يطابق ما يريده المجتمع، وقد عدد الدكتور/ عبد الرحمن الهاشمي أكثر من 25 بنداً لتجهيزات الزواج: الفندق، المطعم، الملابس... إلخ. ويقول: "ترى المتزوج يُحضّر تجهيزات حفل الزفاف من أجل الآخرين كذلك، وربما لن يفكر أحد برغبات الزوجين وما يختارانه أو يريدانه أو يرضي ذاتيهما، في حفل يخصهما تحديداً!"

وقد زاد من انصراف الناس عن الانشغال بذواتها: الإعلام الجديد ووسائله وبرامج المحادثات، بالإضافة إلى الأغنيات والدراما التي تعطي إيحاءً بالانشغال بالآخرين.

زاد من انصراف الناس عن الانشغال بذواتها، الإعلام الجديد ووسائله وبرامج المحادثات، بالإضافة إلى الأغنيات والدراما التي تعطي إيحاءً بالانشغال بالآخرين

ومن المؤكد أن الانشغال بالآخرين يضع النفس بعيداً، ويقصيها عن مسرحها الخاص، وكأنها بداخل سرداب، فكل شيء ينسب للآخرين ويرتبط برضاهم، وبنظرتهم للأشياء، واختياراتهم، وتعليقاتهم... إلخ .

وهذا التصرف الجمعي، والسلوك غير المدروس يصنع أشخاصاً لا يعرفون ذواتهم، بل قد يصل الأمر إلى إنكارها تماماً، فلا يتحسسون احتياجاتهم ورغباتهم، لا يعرفون ما الذي يريدونه، ما معنى حيواتهم، ما جدوى الذي يفعلونه، أو ما هو الهدف الذي يعيشون لأجله ويودّون تحقيقه، وبالتالي تجد غالبية الناس يهربون من ذواتهم، وينشغلون عنها بالآخرين، إما بسبب خوفهم من محاسبة النفس، أو بسبب عدم إدراكهم لأهمية ذلك!

إلى جانب أن مقارنة الابن بالآخرين تؤدي إلى واحد أو أكثر من الانحرافات الأخلاقية التالية:

الغيرة التي تقتل أحياناً، البلادة واللامبالاة، نظرة الحسد للآخرين على أية نعمة، موت الطموح والشغف في نفسه، التجديف العشوائي في الحياة، الاستهانة بقدراته ومواهبه، كرهه لإنجازاته مهما كانت كبيرة، تعميق شعوره بالدونية طَوَال الوقت، أو العكس تماماً فيكون متكبّرا مغترَاً بنفسه لا يحترم الآخرين، ولا يتقبل الاختلاف بل –ربما– لا يدرك أن الاختلاف سنة وطبيعة!

ولعل أخطر ما قد تتسبب به مقارنة الابن بالآخرين كراهية أبويه ونبذ نصائحهما وتعمّد مجانبة آرائهما -ولو كانت صائبة ومناسبة– وإيذاء كل من يحبانه ويقدرانه.

ما الفوائد التي تجنيها الأسرة والابن إذا استبعدت المقارنة في التربية والتحفيز؟

- الثقة بالنفس والاعتداد بها منذ عمر صغير.

- رفع مستوى الوعي بالذات والإنصات إليها.

- صناعة معنى للحياة وأهداف سامية يحيا من أجلها.

- استطاعة وضع خطط حياتية ونجاح تنفيذها.

- ازدياد مستمر في طاقة الحب للحياة والمستقبل والمحيطين.

ولكن ذلك لن يتحقق إلا بجهود الوالدين منذ الصغر، وذلك عبر:

يجب أن يقتنع الوالدان - قبل الابن - أن المواهب متفاوتة والتميز نسبي واستثنائي وأن التفوق الأكاديمي ليس مقياساً للتألق الحياتي

- احترام وجهة نظره واختياراته، وتجنّب إرغامه على خيارات الأبوين.

- تقدير مواهبه – مهما كانت بسيطة – والاحتفاء بها أيضاً.

- إرشاده وتوجيهه لنقاط القوة لديه بأساليب ذكية وعبر اللعب والمرح وليس بالدروس الخطابية.

- اكتشاف مناطق تميزه - بذكاء أيضاً – وتحفيزها.

- يجب أن يقتنع الوالدان - قبل الابن - أن المواهب متفاوتة، وأن التميز نسبي واستثنائي، وهنا يجب أن نؤكد على أن التفوق الأكاديمي ليس مقياساً للتألق الحياتي.

- إفساح المجال للطفل؛ لكي يعبر عن نفسه سواء بالرسم أو الكتابة، الغناء والرقص التعبيري.

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • [محاضرات تربوية] د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي، يوتيوب.
  • [مذكرات تدريبية] قوة التوازن في الحياة – الممارس والمدرب المعتمد في الكوتشينج/ فواز محمد العصيمي. المدرسة العربية للكوتشنج – المملكة العربية السعودية: 2017.
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة فلسطينية من قطاع غزة، تحمل شهادة البكالوريوس في علوم المكتبات والمعلومات، وعدة شهادات معتمدة في اللغات والإعلام والتكنولوجيا. عملت مع عدة قنوات فضائية: الأقصى، القدس، الأونروا، الكتاب. وتعمل حالياً في مقابلة وتحرير المخطوطات، كتابة القصص والسيناريو، و التدريب على فنون الكتابة الإبداعية. كاتبة بشكل دائم لمجلة الشباب - قُطاع غزة، وموقع بصائر الإلكتروني. وعضو هيئة تحرير المجلة الرسمية لوزارة الثقافة بغزة - مجلة مدارات، وعضو المجلس الشوري الشبابي في الوزارة. صدر لها كتابان أدبيان: (وطن تدفأ بالقصيد - شعر) و (في ثنية ضفيرة - حكائيات ورسائل).

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …