شهدت تونس يوم 15 سبتمبر الحالي، الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المبكرة التي تم ترتيبها عقب وفاة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي الذي تولى منصبه في انتخابات 2014م الرئاسية.
أثارت نتائج هذه الجولة من الانتخابات عاصفة ضخمة من التساؤلات والاستغراب أكثر ربما من انتخابات 2014م التي جاءت بالسبسي باعتبار أنه كان نائبًا للرئيس التونسي الراحل، زين العابدين بن علي، الذي اندلعت ثورة الياسمين في نهايات العام 2010م ومطلع العام 2011م للإطاحة به، وجاء حتى على حساب المنصف المرزوقي، أحد أهم وجوه الثورة التونسية.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن نتائج الجولة من الانتخابات الرئاسية الحالية في تونس، تكفي تمامًا، ولا يوجد أي باعث للانتظار للوصول إلى جولة الإعادة ومعرفة نتائجها للقول بأن هناك زلزال عميق قد حدث في تونس، وأن هذا الزلزال لو تم ربطه بعدد من التطورات الحديثة في دول عربية أخرى؛ فإنه يمكن القول إن هناك تحولاً كبيرًا قد بدأ يحصل في العقلية السياسية العربية.
ولئن كان هناك سببٌ أساسي لهذه الحالة من التحول والتغيير؛ فهو يعود في جذره إلى ثورات ما يُعرَف بالربيع العربي، وما قادت إليه من تغيُّرات عميقة، حتى في الخرائط الجيوسياسية للمنطقة العربية والشرق الأوسط.
نتائج الجولة الأولى أتت بأستاذ القانون الدستوري، قيس سَعَيِّد (18,4 بالمائة من الأصوات)، وبرجل الأعمال نبيل القروي، المحبوس على ذمة قضايا تتعلق بغسيل الأموال (15,58 بالمائة من الأصوات)، لكي يخوضا معًا جولة الإعادة المقررة يوم السادس من أكتوبر المقبل.
وأبرز ملاحظة هنا بطبيعة الحال على هذه النتائج، هي أن كلَيْهما لم يأتِ من أي حزبٍ سياسي ولا تقف خلفه أيٌّ من القوى السياسية التقليدية المعروفة في تونس، وبالتالي، فقد كانا من غير المرشَّحين أصلاً من جانب المراقبين، وأكدت مراكز استطلاعات الرأي ذلك، للوصول إلى تحقيق أية نتيجة إيجابية بحال.
ورجَّح هذا الاحتمال، وأثار الاستغراب بعد ذلك من النتائج، أن كلا الاسمَيْن خاضا الانتخابات في ظل دَفْع المحورَيْن التقليديَّيْن، أصحاب الثِّقَل في الحياة السياسية التونسية، واللذَيْن كانا يبدوان أنهما أصحاب الحظوظ الأوفر في هذه الانتخابات، بثُلَّة من المرشحين الأقوياء بالفعل.
فالجناح المحسوب على التيار الثوري، ضم الرئيس الأسبق، المنصف المرزوقي، وعبد الفتاح مورو، المرشح الرسمي لحركة "النهضة"، وكلاهما كان مُرشَّحًا بقوة للمرور إلى جولة الإعادة، إضافة إلى حمَّادي الجبالي، الأمين العام السابق لحركة "النهضة"، والذي كان رئيس أول حكومة بعد رحيل بن علي، بالإضافة إلى أسماء مثل رئيس ائتلاف الكرامة، سيف الدين مخلوف، والمناضل الحقوقي محمد عبو، رئيس حزب التيار الديمقراطي.
أما الجناح المحسوب على نظام بن علي، فتقدموا تحت مسمَّى الكتلة الديمقراطية، ومنهم وزير الدفاع، عبد الكريم الزبيدي، ورئيسا الحكومة السابقَيْن يوسف الشاهد ومهدي جمعة.
ووسط كل هذه الأسماء ذات الخلفيات الحزبية، والمدعومة من قوى سياسية كبيرة لها مرتكز اجتماعي ونفوذ اقتصادي، جاء كل من سِعَيِّد والقروي لكي يخلفا الوعد، كما اعتادت تونس في حقيقة الأمر.
ولعل أغرب الأمور، كان الهزيمة الكبيرة التي مُنِي بها المرزوقي، الذي لم تتجاوز نسبة التصويت له حاجز الاثنين بالمائة إلا بقليل. وهنا نقف عند أول مشكلة مهمة فيما يخص الواقع الذي تعيشه القوى المحسوبة على التيار الثوري في تونس، وهي مشكلة تفكك الجبهة الثورية.
كانت الهزيمة الكبيرة التي مُنِي بها المرزوقي -الذي لم تتجاوز نسبة التصويت له حاجز الاثنين بالمائة إلا بقليل- من أغرب الأمور التي حصلت في الانتخابات. وهنا نقف عند أول مشكلة مهمة فيما يخص الواقع الذي تعيشه القوى المحسوبة على التيار الثوري في تونس، وهي مشكلة تفكك الجبهة الثورية
وهو أمرٌ وإن كان يمكن قبوله أو على الأقل تفهُّمه لو كنا نتكلم عن الإسلاميين واليسار، ولكن تفكيك الجبهة طال حتى التيار الواحد أو الكتلة الواحدة؛ حيث نجد أن "النهضة" وحلفاءها السابقين، قد تقدموا بثلاثة مرشحين، ومن المنطقي للغاية أن نتصور أن التيار لو كان قد اتفق على مرشَّح واحد؛ لكان قد استطاع الوصول إلى جولة الإعادة، ووقتها كان يمكن استغلال الوقت لإعادة ترتيب الحملة الانتخابية له، والفوز بالمنصب الكبير.
وقد يمكن تفهُّم موقف الجبالي، الذي هو في الأصل على خلاف مع حركة "النهضة"، لكن الذي أثار الكثير من الاستغراب الذي وصل إلى مستوى النقد الصريح قبل الانتخابات، نزول المرزوقي ونزول "النهضة" بمرشَّح رسمي لها.
وهنا يجب التمييز بين أمرَيْن. لو كان المرزوقي قد نزل بينما لم تقدِم "النهضة" على ترشيح مورو، لم يكن من المضمون للمرزوقي في ظل النتيجة التي حققها، أن يحصل على أصوات القاعدة الانتخابية لـ"النهضة" ومؤيديها.
فمنذ فترة، والمرزوقي عرضةً لحملة انتقادات واسعة بسبب تواصل تم بينه وبين مسؤولين دبلوماسيين فرنسيين، وهو أمرٌ شديد الحساسية بالنسبة لطائفة واسعة من الرأي العام التونسي، بالإضافة إلى استمراره في ذات النسق القديم من العلاقات مع قوى قريبة من الإخوان المسلمين، وحكومات إقليمية، مثل الحكومتَيْن القطرية والتركية.
في المقابل، كان يمكن لمورو أن يمر للجولة الثانية لو لم يكن المرزوقي أو الجبالي قد نزل الانتخابات، لأن الفارق بينه وبين القروي، ثاني المرشَّحَيْن اللذَيْن مرَّا لجولة الإعادة، أقل من مجموع نسبة أصواته ونسبة أصوات المرزوقي أو الجبالي، أو كليهما معًا.
وتعود حظوظ مورو الأفضل بين هذَيْن الاحتمالَيْن، إلى أنه ينتمي إلى قوة سياسية منظَّمة، وهي حركة "النهضة"، ويحظى بأفضلية عن الجبالي والمرزوقي في نقطة إعلان النهضة نأيها عن الاضطرابات الحاصلة في الإقليم وأطرافها.
ففي صيف العام 2016م، وخلال مؤتمرها العام العاشر، أعلنت "النهضة" صراحةً عن التخلي عن صفتها كحركة إسلامية، وعن الارتباطات الإقليمية والدولية التي يمثلها كونها كانت جزءًا من جماعة "الإخوان المسلمون" العالمية.
وأيًّا كان الأمر؛ فإن هذه الملابسات تقول بأن هناك تبدلاً في المزاج العام في تونس، سواء فيما الأطراف الداخلية، أو ما يخص السياق الإقليمي العام، فبينما في 2011م و2012م، كانت مسألة الارتباط بالإخوان المسلمين وبالعواصم الداعمة لهم، وتبرز دعمها لفكرة التغيير في الدل العربية؛ كانت عنصر قوة وتسويق سياسي جيدة، باتت الآن العكس؛ عنصر خَصْمٍ من الشعبية.
وأيًّا كانت صوابية هذه الرؤية أو خطأها، أو أن باعثها كان سياسات إعلامية ودبلوماسية للمعسكر المحسوب على الثورات المضادة؛ فإنه في النهاية، بات أمرًا واقعًا.
يُضاف إلى ذلك، قضية مهمة للغاية بالنسبة للمواطن التونسي، وهي أن كل هذه القوى –الإسلاميون والقوى الأخرى المنظَّمة– لم تفلح في السنوات الماضية في معالجة مشكلات تونس الاقتصادية والأمنية، وهي –وفق الكثير من استطلاعات الرأي– كانت العامل الأهم في توجيه الناخب التونسي، وفي صناعة المزاج التونسي العام.
ومن بين الملفات المهمة التي ساهمت في تقليص حظوظ الإسلاميين والجناح المحسوب على الثورة التونسية، ولكنه لا يحظى باهتمام إعلامي خارج تونس، ولكنه مركزي فعلاً في تونس، هو موقف الحكومات التونسية المتعاقبة من الحرب في سوريا والأزمة في ليبيا التي تحولت إلى حرب صريحة مؤخرًا.
فالملفان مرتبطان بقضية ذات شأن بالنسبة للتونسيين، وهي قضية المقاتلين التونسيين الذين يحاربون في صفوف الجماعات المسلحة في سوريا وليبيا، مع اتصال الأمر في الجبهة الأخيرة على وجه الخصوص، بموضوع الأوضاع الأمنية في البلاد، لأن الكثير من العمليات الإرهابية التي ضربت تونس في السنوات الأخيرة، كانت لعناصر عائدة من ليبيا أو سوريا.
ومن بين المعلومات الإعلامية المتداولة في هذا الصدد، أن تونس هي صاحبة الرافد العربي الأكبر للمقاتلين في المجموعات المسلحة التي تقاتل في سوريا، وأن حركة "النهضة -كما يقال- ذات صلة بمسألة تسفير الشباب للقتال في سوريا وليبيا.
ونؤكد هنا أنه بقطع النظر عن صحة هذه الاتهامات الموجَّهة إلى "النهضة" في هذا الصدد؛ فإنها في النهاية، نقطة كان لها أثرها على الناخب التونسي.
وهنا يثور تساؤل على أكبر قدر من الأهمية فيما يخص "النهضة"، وهو هل فشل فعلاً رهانها على حالة الانسلاخ المعلنة التي أقدمت عليها في مايو 2016م، عندما نزعت صفة "الإسلامية" عن مسمَّى الحركة، وأعلنت عن التزامها بهويتها الوطنية التونسية فحسب؟
من التساؤلات المثارة على حركة النهضة، وهو هل فشل فعلاً رهانها على حالة الانسلاخ المعلنة التي أقدمت عليها في مايو 2016م، عندما نزعت صفة "الإسلامية" عن مسمَّى الحركة، وأعلنت عن التزامها بهويتها الوطنية التونسية فحسب؟
ففي حينه ظهرت انتقادات جمَّة لموقف "النهضة" وزعيمها راشد الغنوشي، الذي برر هذه الخطوة بأنه يحاول أن يتفادى مصير تيارات الإسلام السياسي الأخرى التي تم العصف بها في دول عربية كثيرة، مثل مصر والسعودية والإمارات، في إطار حِراك الثورة المضادة.
الآن؛ خيار "النهضة" الآن صار على المِحك، لأنه من الواضح أن الحركة خسرت ثقة الشارع التونسي، وبمنطق الاستشراف السياسي المستند إلى تجارب الماضي؛ فإن ما جرى في الانتخابات الرئاسية، مؤشر مهم على الانتخابات التشريعية المقررة في أكتوبر بالتزامن مع الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن مسألة تغير المزاج السياسي العام الذي قاد إلى تحول كامل في الخيارات، ليس قاصرًا على تونس، فذات المنطق نجده في طرائق تعامل مؤسسات الحكم القديمة، ولاسيما المؤسسات العسكرية، في كل من السودان بعد الإطاحة بالبشير، والجزائر، بعد تنحي بوتفليقة.
فهناك اختلاف كبير في طريقة تلقِّي الموقف والتعامل مع الحالة الجماهيرية التي ظهرت عن الكيفية التي تعاملت بها الأنظمة والحكومات التي اندلعت فيها ثورات الشعبية العارمة في 2011م، وربما لو لم تكن دروس اليمن وليبيا وسوريا حاضرة؛ لكان هناك شأنٌ آخر حاصل في السودان، أو في الجزائر، والتي يبدو أنها كانت أول المستفيدين من دروس وعِبَر الماضي في عشريتها السوداء في التسعينيات.
وفي الأخير؛ فإن ما جرى ومن المرجَّح أن تستمر تضاعيفه في تونس، ينبغي أن يثير انتباه كل المهتمين والمشتغلين بقضية الإصلاح والتغيير في العالم العربي؛ حيث إن هناك متغيرات حاصلة لو تم تجاهلها؛ فإن ذلك يعني –بكل تأكيد– الموت السياسي والجماهيري للقوى التي لا تقوم بأخذ العبرة والدرس.