حالة من الاكتئاب والذعر تتلبس الإنسان حين يقترب من سن الأربعين ظناً منه أن حياته وطموحاته وتركيزه وأداءه وحيويته سوف تتبدل من حال إلى حال، وأن عليه أن يعتزل الحياة وقد تجاوز مرحلة الشباب، وربما قد تعتريه العزلة الحقيقية، أو نجده على النقيض يتخذ رد فعل عكسي نتيجة الخوف فيفعل ما يثير عجب البعض ويسمونه بالمراهقة المتأخرة، فيأتي بأفعال تشبه أفعال الصبيان كإثبات لنفسه أنه ما زال شاباً فتياً، وكرد فعل طبيعي تجاه ما يعتقده حول هذا السن.
ومن العجيب أن للإيمان تأثيراً عجيباً على الإنسان لتجاوز هذه المخاوف، فالمؤمن الذي يعي مهمته التي خلقه الله من أجلها يعلم يقيناً أنه يجب عليه العمل والعطاء والبذل والتضحية حتى اللحظة الأخيرة من حياته وليس فقط في سن الشباب، وقد قال ربه: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر:99] وهو الموت، فحياة الإنسان لا تتوقف أو تنتهي إلا باللحظة التي حددها الله سبحانه بنهاية العمر، وطاقة الإنسان وهمته وإن كانت تفتر مع الزمن فالمؤمن يتجاوز تلك الإشكاليات والأزمات، وهمته إلى علو دائماً، وعطاؤه لا يفتر ولا يقل.
سن النبوة والرشد
يتميز سن الأربعين بأنه المرحلة الوسطى التي تجمع بين حداثة الشباب بفتوته وحيويته ونشاطه وحماسته، وبين الخبرات المتراكمة التي يصقل العقل والحكمة والاتزان، فهو حديث عهد بالشباب، وحديث عهد باكتمال الرجولة لدى الرجال، والأنوثة لدى المرأة، يقول الله عز وجل: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين} [الأحقاف:15] فقد شرحت الآية الكريمة مميزات سن الأربعين في كلمات مبسطة ومركزة تطمئن صاحبها أنه في بداية العمل الصحيح وليس نهايته، فبلوغ الأشد هو بلوغ مرحلة اكتمال العقل فيشكر على النعمة، ويواظب على الدعاء في أعلى درجاته فيدعو لنفسه ولوالديه ولذريته، بالعمل الصالح وبالتوبة، فهو يعمل، لكنه عمل لا يحتمل الخطأ كما كان يحدث في فورة الشباب، أو يلزم الخطأ التوبة، لم تخفف عنه الآية بعض العمل، ولم ترفع عنه بعض التكليف، إنما هو نفس العمل المنوط بمرحلة الشباب المبكر، لكن أكثر وعيا، أكثر قدرة على الاستيعاب، أكثر قدرة على التفهم والمرونة والتصحيح.
ولذلك كانت النبوة في هذا السن الوسطي الرائع، والرسالة والنبوة هما التكليف الأسمى للإنسان على وجه الأرض، فالأنبياء هم صفوة البشرية، ولا توجد رسالة أو مهمة أسمى من هداية الإنسان، فلا يجوز أن يتسم النبي من الأنبياء بالحماسة التي قد تجعله عرضة للخروج عن جادة الطريق، وليس بعد الستين مثلا فيثقل عليه العمل والحراك، والله عز وجل حين جعل النبوة في سن الأربعين فهو يعلم سبحانه أن التكليف النبوي يبدأ فيه وليس ينتهي عنده ، فالنبي قد يطول به العمر عشرات السنوات بعد الأربعين، ويكون مكلفا بكافة ما يكلف به أي نبي بالدعوة والتبليغ وتحمل أذى الناس وحتى الجهاد في سبيل الله.
ويتميز كذلك سن الأربعين باكتمال أفكار الإنسان، فتتغير بعض قناعاته التي كان يحسبها يوماً من الثوابت، وتختلف نظرته إلى الأمور نسبياً، وتعتدل نظرته للناس والأشياء، فبعض ما كان مقدساً يفقد قيمته، وبعض ما كان هيناً يحتل مرتبة تليق به.
يتميز سن الأربعين باكتمال أفكار الإنسان، فتتغير بعض قناعاته التي كان يحسبها يوماً من الثوابت، وتختلف نظرته إلى الأمور نسبياً، وتعتدل نظرته للناس والأشياء، فبعض ما كان مقدساً يفقد قيمته، وبعض ما كان هيناً يحتل مرتبة تليق به
كذلك يتميز عند المرأة باكتمال تجربتها، وقرب التخفف من مهام الأمومة وتبعاتها، فتكسب المزيد من الوقت للنهوض بذاتها خارجياً وداخلياً فتلجأ إلى الاهتمام بما قد فقدته وقت الانشغال بممارسة مهامها كأم، تعود لاستعادة لياقتها وصحتها البدنية، وتعود للاهتمام بدورها كزوجة يجب عليها إسعاد نفسها وزوجها واستعادة فورة الحب بينهما من جديد، كذلك يجب عليها النهوض بثقافتها من خلال تجديد قراءاتها والاطلاع على أحدث إصدارات المكتبات، ثم عودتها للاهتمام بالشأن العام الذي انشغلت عنه كثيرا نظرا لزحمة الأعمال الحياتية لديها في الفترات السابقة لهذا السن الذهبي.
خطوات مستقبلية لتصحيح المسار
الإنسان أيام معدودة وخيرنا ما طال أجله وحسن عمله ولا أحد يعلم متى يحين الأجل فالواجب على الإنسان أن يكون على جاهزية في كل وقت للقاء الله.
وبما أن بداية الأشد في الأربعين، فلا يجب تفويت تلك الفرصة لإعادة برمجة العقل بما يتلاءم ومجموعة الخبرات المكتسبة، وتصحيح المسار قدر الاستطاعة على كل المستويات العقيدية والإيمانية والعبادية والسلوكية والصحية امتدادا للعلاقات الإنسانية المحيطة به في عملية مراجعة شاملة لمجمل ما فات استعدادا لما هو آت.
فعلى المستوى الديني
هناك تساؤلات يجب أن يعد لها الجواب، ماذا قدمت في حياتي؟ أين أنا الآن من صحيح الفعال؟ ما الذي يجب أن أقدمه في حياتي المقبلة؟ وهو أشبه ما يكون بعملية إعادة تخطيط لمسار الحياة بصورة أكبر حكمة وتعقلاً، يستعرض فيها الإنسان نقاط قواته ليرتكز عليها، ونقاط ضعفه ليعالجها، والفرص المتاحة وما يجب عليه من أمور عاجلة أو يمكن تأجيلها بإعادة ترتيب الأولويات.
وعلى المستوى الشخصي
عليه أن يهتم بصحته أكثر مما كان، وأن يولي ذاته اهتماماً أكبر، وأن يرتب أموره بعيداً عن حياة الفوضى والتأجيل والتكاسل فيما يخص صحته، فهو يحتاج لضبط غذائه اليومي، يضبط وزنه، ينظم حركته فيمشي على الأقل ساعة يومياً، يقلل من استخدام السكريات والأملاح، يكثر من شرب المياه، يكثر من الخضروات والفواكه والأطعمة ذات الألياف، يتبع حمية تحت إشراف الطبيب، يكثر من مضادات الأكسدة، يقلل من الغضب، يجعل له وقتاً أسبوعياً للراحة يبتعد فيه عن كل الضغوط البدنية والنفسية.
وعلى المستوى الاجتماعي
على الزوجين إعادة تأهيل نفسيهما ذاتياً وحياتياً، والنظر بعين الجدية لعلاقته بالآخر لإذابة ما قد يكون قد علق بها من جمود ، ومن الأفكار التي من الممكن أن تجدد الحياة الزوجية في تلك المرحلة العمرية السفر معا وحدهما في إجازة من كل الانشغالات العامة والخاصة بعيداً عن الأبناء والأهل والأصدقاء والعمل، يكسرا فيها النمط الروتيني للحياة بينهما، أيضا العبادات المشتركة بينهما فقط دون الغير، كقيام ليل، أو صيام يجمعهما على الإفطار وحدهما، أو أداء عمرة تجمعهما فقط، أو إخلاء البيت وتجديده بشكل بسيط ليقضيا يوماً فيه وحدهما وهكذا من الاهتمام الخاص بين الاثنين.
أما على المستوى العلمي
يحسب البعض خطأً أن القدرة على التحصيل والعلم تقل في مرحلة ما من العمر، بينما قد قرر العلماء أن قدرة العقل البشري غير محدودة على التحصيل العلمي والثقافي والتجديد على كل المستويات، وأن ما يؤثر في التحصيل ليس ضعف القدرة العقلية، وإنما كثرة الانشغال بقضايا متشعبة ومتعددة في آن واحد ، فالرجل أو المرأة في سن الأربعين أو فيما بعده يستطيع التحصيل بنفس القدر الذي يحصل به الطالب في المرحلة الجامعية وبصورة أكثر تركيزاً شرط أن يفرغ عقله تماماً لما يتلقاه من علم، والإنسان مع كثرة انشغالاته في تلك المرحلة إلا أنه يستطيع التخفف من بعض الأعباء المفروضة عليه بحكم سن أبنائه واحتياجاتهم له خاصة الأم، فاستثمار هذا الوقت المتوفر يجب أن يكون بالشكل الأمثل، ولا مانع من الالتحاق بأي وسيلة تعليمية تمنحه تخصصاً أكثر دقة في مجاله، أو تمنحه العلم في مجال آخر كان يتمناه يوماً ولم يستطع الحصول عليه لظروف قهرته، ومن الجيد أن الجامعات العربية اليوم تتيح تلك الفرصة لمن فاته قطار الحصول على شهادة ما، أو عمل دراسات عليا في مجاله مثلا، ويمكن أن يكون التحصيل الثقافي عن طريق القراءة، ومنح الذات فرصة للمزيد من المعارف بتخصيص ساعات محددة للقراءة والاطلاع، وإن كانت الكتب العلمية أصبح من الصعب الحصول عليها لارتفاع أسعارها، فإنها متاحة على شبكة الإنترنت في كل المجالات.
ختاماً.. إننا نستطيع الآن أن نطلق اسماً جديداً على سن الأربعين، وهو سن السعادة والنضج والحياة دون ضغوط ومكبلات، سن يحمل الشباب والرجولة المكتملة والأنوثة الطاغية في آن واحد، إن الإسلام لا يعرف ما يسمى باليأس، أو الإحباط، والجميع مكلف بالعمل ذاته إلا المرضى وأصحاب الأعذار وقليل ما هم. اقلب صفحة الخوف وانطلق فالأمر يستحق.