إرشاد العباد إلى سبيل الرَّشاد

الرئيسية » خواطر تربوية » إرشاد العباد إلى سبيل الرَّشاد
brainstorm

"قطرةُ من فيض جُودِك تملأ الأرض رياً، ونظرةُ من عين رِضِاك تجعل الكافر ولياً" (سيدنا علي رضي الله عنه).

الرُّشد هو غاية ما يرجو المرء الوصول إليه في أموره كلها - دينية كانت أم دنيوية؛ فالمرء يسعى ويبذل أقصى استطاعته من أجل الوصول وصولاً حميداً مُرضياً لمُبتغاه.

إن الرشد هو الحصن المتين الذي تكمن بداخلة الشخصية المنضبطة المتزنة التي تضع الأمور في نِصابها بدون إفراط أو تفريط .

إن الرشد حصن وكرامة للمسلم، فبه يتغلب على وساوس النفس وشهواتها، وبه يُنير الله تعالى بصيرته فيفرِّق بين الصالح والطالح، ويعرف المُصلح من المُفسد، وبه يهتدي إلى سبيل الرشاد؛ فيسلكه، ويعرف سبيل الغي؛ فيتجنبه.

إن الرشد ليس أمنية يمكن أن تُنال بسعة عِلم ولا بكثرة اطّلاع فقطْ، ولكنه هبة من الله تعالى، يهبها لمن اطلع على قلبه فما وجد فيه سِوَى عقيدة راسخة، وإيمان عميق، وإخلاص لا تشوبه شائبة، ورحمة تسع كل الخلق.

حين يصل المرء إلى درجة الرشد يفيض الله تعالى عليه من الحكمة، وسعة الأفق، ونفاذ البصيرة، ما يجعله عبداً ربانياً، وما يجعله في حفظ الله تعالى وكنفه ورعايته، وما يجعله أهلاً للتوفيق والسداد والرشاد والإرشاد.

إن من ضلّ سبيل الرشاد فقد خسر خسراناً مُبْيناً، والمحروم الحقيقي ليس من حُرِم العطاء المادي، ولا البنيان القوي الفتي، إنما المحروم الحقيقي هو من حُرِم التوفيق الرباني.

إن من يضل سبيل الرشاد تراه في كل واد هائماً مُتخبطاً، لا يعرف لنفسه هدفاً ولا غاية، يملأ الشقاء قلبه، ويملأ الشتات ذهنه، يحسده الناس على ما لديه من النعم ولا يدرون أنها تجر عليه الويلات وأن فيها مهلكه وحتفه.

حين يصل المرء إلى درجة الرشد يفيض الله تعالى عليه من الحكمة، وسعة الأفق، ونفاذ البصيرة، ما يجعله عبداً ربانياً، وما يجعله في حفظ الله تعالى وكنفه ورعايته، وما يجعله أهلاً للتوفيق والسداد والرشاد والإرشاد

أولاً/ معنى اسم الله تعالى (الرشيد):

الرشيد هو: الذي أسعد من شاء بإرشاده، وأشقى من شاء بإبعاده، عظيم الحكمة بالغ الرشاد.

قال العلامة السعدي - رحمه الله - في تفسير اسم الله تعالى (الرشيد): "وهو الرشيد الذي أقواله وأفعاله رُشد، وهو مُرشد الحائرين في الطريق الحسِّي، والضالين في الطريق المعنوي، فيرشد الخلق بما شرعه على ألسنة رسله من الهداية الكاملة، ويرشد عبده المؤمن، إذا خضع له وأخلص عمله أرشده إلى جميع مصالحه، ويسَّره لليُسرى وجنبه العُسرى، فأقواله القدرية التي يُوجِد بها الأشياء ويُدبر بها الأمور كلها حقٌ؛ لاشتمالها على الحكمة والحسن والإتقان، وأقواله الشرعية الدينية - وهي أقواله التي تكلم بها في كتبه وعلى ألسنة رُسله - المُشتملة على الصِّدق التام في الإخبار، والعدل الكامل في الأمر والنهي؛ فإنه لا أصدق من الله قِيلاً ولا أحسن منه حديثاً".

وقال الحليمي رحمه الله: "الرشيد هو المرشد سبحانه ومعناه الدَّالُ على المصالح والصالح والداعي إليهما، وهذا من قوله تعالى: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف: 10]، وقوله عز وجل: {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} [الكهف: 17] فإن مُهيئ الرُّشد مُرشِدٌ أي هاد".

ثانياً/ معنى الرُّشد:

جاء في المعجم الوسيط: الرُّشْدُ (عند الفقهاء): أَن يَبْلُغ الصّبِيُّ حدَّ التكليف صَالِحاً في دينه مُصلِحاً لمالِهِ.

والرُّشْدُ (في القانون): السِّنُّ التي إِذا بلغها المرءُ استقلّ بتصرفاتِهِ.

وجاء في تفسير (روح المعاني) للألوسي - رحمه الله - قال: "وقال بعضهم: الرَّشَد (بفَتْحَتَيْنِ) أخص من الرُّشْد؛ لأن الرُّشد بالضم يُقال في أمور الدنيا والآخرة، والرَّشَد يُقال في أمور الآخرة لا غير"

ثالثاً/ ذكر (الرُّشد) في القرآن الكريم:

ورد ذكر (الرُّشد) في القرآن الكريم بصيغ متنوعة سأذكرها إجمالاً، مثل (الرُّشد – رُشداً – رَشَدا – رُشده – مُرشداً – الرَّاشدون – الرَّشاد – الرَّشيد – يَرْشُدُونَ – رَشِيد - بِرَشِيد) وقد ورد الرُّشد - في القرآن الكريم - في مقابل الغيّ، وورد في مقابل الشرّ، كما ورد في مقابل الضر، ومن الملاحظ أن (الرُّشد) ورد متعلقاً بالقصص القرآني للأمم السابقة التي جانبها الصواب وتنكبت سبيل الرَّشاد.

رابعاً/ بعض الأحاديث التي وردت في هذا الشأن:

1. عن شَدَّاد بْن أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - قال: "يا شدَّادُ بنُ أوسٍ! إذا رأيتَ النَّاسَ قد اكتنزوا الذَّهبَ والفضَّةَ؛ فاكنِز هؤلاء الكلماتِ: اللَّهمَّ! إنِّي أسألُك الثَّباتَ في الأمرِ، والعزيمةَ على الرُّشدِ، وأسألُك موجِباتِ رحمتِك، وعزائمَ مغفرتِك، وأسألُك شُكرَ نعمتِك، وحُسنَ عبادتِك، وأسألُك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وأسألُك من خيرِ ما تعلَمُ، وأعوذُ بك من شرِّ ما تعلَمُ، وأستغفرُك لما تعلَمُ؛ إنَّك أنت علَّامُ الغيوبِ" [صححه الألباني].

2. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه" [رواه أبو داود].

خامساً/ بعض جوانب الرشاد والتوفيق الإلهي

إن في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي ما لا يُعد ولا يُحصى من النماذج التي تدل على رشد أصحابها، ورجاحة عقولهم، وفصاحة ألسنتهم، وحسن تدبيرهم للأمور، وذلك كله بعد توفيق إلهي، وعون رباني، لذا سأكتفي بذكر غيض من هذا الفيض للدلالة على ذلك.

1. التوفيق في اتخاذ القرار: جاء في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" ما نصه: "... فأما تسميتها الخندق؛ فلأجل الخندق الذي حُفِر حول المدينة بأمر النبي ﷺ، وكان الذي أشار بذلك سلمان، فيما ذكر أصحاب المغازي منهم أو معشر قال: "قال سلمان للنبي ﷺ: "إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا"، فأمر النبي - ﷺ - بحفر الخندق حول المدينة، وعمل فيه بنفسه؛ ترغيباً للمسلمين، فسارعوا إلى عمله حتى فرغوا منه".

إن رأي الصحابي الجليل سلمان الفارسي - رضي الله عنه - كان نعم الرأي السديد الرشيد الذي جنَّب المسلمين ويلات حرب لا تبقي ولا تذر من جانب الأحزاب.

2. التوفيق في إدارة الأزمات: عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "بَعثَ رسولُ اللَّهِ - ﷺ - جيشاً استعملَ عليْهم زيدَ بنَ حارثةَ، وقالَ: فإن قُتلَ زيدٌ أوِ استُشْهِدَ فأميرُكم جعفرٌ، فإن قُتِلَ أوِ استشْهدَ فأميرُكم عبدُ اللَّهِ بنُ رواحه، فلقوا العدوَّ، فأخذَ الرَّايةَ زيدٌ فَقاتلَ حتَّى قتلَ، ثمَّ أخذَ الرَّايةَ جَعفرٌ فقاتلَ حتَّى قُتِلَ، ثمَّ أخذَها عبدُ اللَّهِ فقاتلَ حتَّى قُتلَ، ثمَّ أخذَ الرَّايةَ خالدُ بنُ الوليدِ ففتحَ اللَّهُ عليْهِ... إلى آخر الحديث" [قال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم].

استلم خالد - رضي الله عنه – الراية؛ لمواجهة جيش الروم الذي يزيد عدده وعتاده عن جيش المسلمين أكثر من ستين ضعفاً، فقام خالد - رضي الله عنه - بوضع خطة تعرف إلى يومنا هذا بالخطة الخالدية بل وتدرس للجيوش إلى يومنا هذا. إن الرأي الرشيد الذي وفق الله تعالى إليه خالداً -رضي الله عنه- اختصر الزمان، ووفر الطاقات والإمكانات، وبه تجنب المكاره، وبه تحققت النجاة لجيش المسلمين، وبه تراكمت الخبرات؛ لتكون رصيداً للأجيال تجنبهم المهالك والويلات.

3. التوفيق والهداية إلى سبيل الرشاد: روى ابن عساكر بسنده عن الفَضْل بن موسى قال: "كان الفضيل شاطراً يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس (مدينتان في إيران)، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]، قال: يا رب، قد آن! فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال قوم: حتى نصبح؛ فإنَّ فضيلاً على الطريق يقطعُ علينا، قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهمَّ إني قد تبتُ إليك، وجعلتُ توبتي مجاورة البيت الحرام" [سير أعلام النبلاء للذهبي].

4. التوفيق في العرض والإقناع: "يُحكى أنّ البادية أصابها قحط في أيام الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، فقدم عليه وفود العرب فهابوا أن يكلموه، وكان فيهم فتى اسمه (درواس بن حبيب) عمره ست عشرة سنة، فوقعت عليه عين هشام، فقال لحاجبه: ما شاء أحد أن يدخل عليّ إلا دخل حتى الصبيان، فوثب (درواس) حتى وقف بين يديه ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنّ للكلام نشراً وطيّا وإنه لا يعرف ما في طيّه إلّا بنشره، فإن أذن لي أن أنشره نشرته، فأعجبه كلامه، وقال: انشر لله درّك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه أصابتنا سنون ثلاث، سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللّحم، وسنة دقّت العظم، وفي أيديكم فضول مال، فإن كانت لله ففرِّقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدّقوا بها عليهم؛ فإن الله يجزي المتصدقين، فقال هشام: ما ترك الغلام لنا في واحدة من الثلاث عذراً، وأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وللغلام بمائة ألف درهم، ثم قال له: ألك حاجة؟ قال: ما لي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين، فخرج من عنده وهو من أجلِّ القوم".

جاء في كتاب المستطرف/ للأبشيهي - رحمه الله - قال: "دخل الحسن بن الفضل على بعض الخلفاء، وعنده كثيرٌ من أهل العلم، فأحبَّ الحسن أن يتكلَّم، فزجره، وقال: يا صبي، تتكلَّم في هذا المقام؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت صبيّاً، فلست بأصغر من هُدْهُد سُليمان، ولا أنت بأكبر من سُليمان - عليه السَّلام - حين قال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]، ثمَّ قال: ألم تر أنَّ الله فهَّم الحُكْم سُليمان، ولو كان الأمر بالكِبَر لكان داود أولى".
وصدق الإمام علي - رضي الله عنه - حين قال: "إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى * فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ"

ختاماً أقول: بالرشد تفتح القلوب، وتبلَّغ الدعوات، وتُلبى المقاصد، وتذلَّل العقبات، وتُحفظ الحقوق، وتصان الكرامة، وتسبر أغوار الأمور وخباياها وأسرارها .

وإن ما يُحقق الرُّشد في المؤمن ويصل به إلى سبيل الرشاد هو أن يكون وثيق الصلة بربه، مُحسناً الظن به، والتوكل عليه، حتى يفتح له مغاليق الأمور، وحتى يفيض عليه من الرُّشد ما يجعله راجح العقل، مُتزن الفكر، سديد الرأي، مُستقر الحال، هادئ البال، مُسخِّراً هذا الرُّشد لما فيه خيري الدنيا والآخرة لنفسه ولأئمة المسلمين وعامتهم.

الله نسأل أن يُلهمنا رُشدنا، وأن يبصرنا بعواقب الأمور، وأن يُجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …