مما يقتضيه إيمان المؤمن -بالله المالك- الربط على قلوب الواجفين من تقلبات الحياة، الذين يعيشون على تخوف من هواجس المستقبل، وتوجس لما يحمل في طيَّاته من مصاعب، ويحسَبون كل نازلة حولهم لاحقة بهم.
إذ إن ملكية الله لك هي رحمة بك من كل ذلك، تكفيك همّ وِلاية نفسك أو إيكالها لمخلوق مثلك ، فمَن خير من يلي أمر العبد المملوك إلا مالكه الحق؟ {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُوراً} [الإسراء: 100].
و"الوَلـِيّ" في لسان العرب -في أسماء الله تعالى- هُوَ النَّاصِرُ، وَقِيلَ: "الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِ الْعَالَمِ وَالْخَلَائِقِ الْقَائِمُ بِهَا، وَمِنْ أَسْمَائِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الْوَالِي، وَهُوَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، وَكَأَنَّ الْوِلَايَةَ تُشْعِرُ بِالتَّدْبِيرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْفِعْلِ، وَمَا لَمْ يَجْتَمِعْ ذَلِكَ فِيهَا لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَالِي"، والولِيّ من البشر هو الذي يقوم على شؤون من يتولى، بالحفظ والرعاية والصيانة وكفاية الحاجة.
يقتضي إيمان المؤمن - بالله المالك - الربط على قلوب الواجفين من تقلبات الحياة، الذين يعيشون على تخوف من هواجس المستقبل، وتوجس لما يحمل في طيَّاته من مصاعب، ويحسَبون كل نازلة حولهم لاحقة بهم
وتأمل في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 73، 74]، وتفكّر في ذلك الجمع البديع بين تقرير وأحادية الملك لله، وطمأنة التوسعة على العباد فيه، لذلك كان استشعار المؤمن لمعنى المملوكية لله لازماً؛ ليجتمع في نفسه الأدب مع المالك تعالى في طلاقة مشيئته ونفاذ تقديره من جهة، والاطمئنان لولاية المالك تعالى له، واليقين بخيرية وحكمة تدبيره فيه وله من الجهة الأخرى، فيستشعر المؤمن بالمالك أنه في حِمَى وَلِيّه تعالى وحفظه، ويستحضر أن مالكه معه في كل أحيانه، يسمعه ويراه ولا يَخفى عليه من حاله شيء، ولا يجد خيراً من أن يفوّض الأمر كله لصاحب الأمر كله، فيصرّفه بحقه.
ولكي يستقر أثر معنى الولاية في نفسك، تأمل حال الطفل الصغير ممسكاً بيد أمه أو تلابيبها بقوة، أو حين يكون في صحبة من يعرف من أهل وأقارب ويثق بهم، مهما وُضع ذلك الطفل في مكان غريب عليه غير مألوف له، يظلّ هادئ النفس مطمئن البال طالما كان مُحاطاً بذلك الفرد أو الصحبة التي يألفها ويثق بها؛ لأنه يستمد الأمان من "يقين ولاية" ذلك الفرد أو تلك الصحبة له، فأينما وجّهه وَلِيُّه توجَّه بتسليم تام، نابع من ثقته به وبدرايته عنه، فإذا خَلَت ساحته من ذلك الوليّ، فزِع وجزع، ولو كان حوله ناس طيبون أو كان في مكان أُنْس، سيظل مضطرب الوجدان مقلقل النفس، حتى يعثر على وليّه، أو يتخذ له ولياً جديداً!
فإلى أي مدى يعرف العبد المملوك ربه المالك ليستشعر ولايته؟ ما أثر تفكرك في أن الله وحده هو مالك الملك والملكوت كله؟ ما أثر ذلك على هواجسك ومخاوفك وسعيك المضطرب القلوق في الحياة؟ ما أثر ذلك في هرعِك للاستنجاد بالله خالقك ومالكك، قبل المخلوقين الذين لا يملكون لك شيئاً على الحقيقة؟ إلى أي مدى نستشعر حقاً أن مالكنا قريب منا؟ أقرب إلينا من حبل الوريد؟ هل تثق في ربك؟ هل توقن بولاية الله لك؟ أم تتذبذب بين الظن والشك في ذلك؟ من يملك لك خيراً مما يملك الله؟ بل من يملك لك أصلاً سوى ما ملّكه الله من أمرك ولو شاء استرده؟استشعار المؤمن لمعنى المملوكية لله لازم؛ ليجتمع في نفسه الأدب مع المالك تعالى في طلاقة مشيئته ونفاذ تقديره من جهة، والاطمئنان لولاية المالك تعالى له، واليقين بخيرية وحكمة تدبيره فيه وله من الجهة الأخرى
ولذلك لم يكن عبثاً أن يكون دعاء النازلة أو المُصيبة: "إنا لله، وإنا إليه راجعون"، فهو ليس عزاء للقلوب المنكسرة فحسب، بل قوة تجبرها كذلك؛ لأنه اعتراف وإقرار بأنك وما أُصِبتَ فيه (من مال أو أهل أو نفس) وما حُفِظَ عليك، كل ذلك إنما كان منه سبحانه ابتداءً وإليه راجع انتهاءً، أنت وما ملّكك المالك عاريَّة مردودة (أي استعارة تُرد إلى من أعارك إياها) والإعارة مؤقتة مهما طال أمدها، فلا خلود ولا تمام ولا بقاء ولا كمال في الدار الأولى، وإنما في الآخرة، وما دمنا نحن وما نملك وما نحب وما نجمع، مِلك لله، فليفعل الله بنا ما يشاء ونحن مسلّمون له، أدباً معه وثقةً به ويقيناً فيه بما هو سبحانه أهله، فلله تعالى ما أعطى، ولله تعالى ما أخذ، وكل شيء عند الله بمقدار، ولئن أخذ فلقد أبقى، وإن ابتلى فلطالما عافى، وإنما نحن بين سابق ولاحق، وعبرة ومتعظ .
يا أيها المملوك لله! إن المالك معك، فهل أنت مع المالك؟
يا أيها المؤمن بالله، قد منَّ الله عليك بولايته، فهلا تشبثت بها وتعلقت؟