الحريات في زمن عمر بن الخطاب

الرئيسية » بصائر الفكر » الحريات في زمن عمر بن الخطاب
عمر-بن-الخطاب-52

لست أدري من القائل: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، لكن ما أعلمه أنها قيلت في زمن غابت فيه العدالة والحرية والقيم الإسلامية، التي تنزلت لترفع من الشأن الإنساني في المقام الأول.
قيلت في أشد فترات الضعف التي مرت بها الأمة، حين صارت الهزائم سمت تحركات حكامها، فقَدَ المسلم إثرها كافة حقوقه المشروعة والتي أقيمت الحروب -في الأساس- من أجل ضمانتها لكافة الخلق وليس فقط للفرد المواطن المسلم في ربوع دولة الإسلام، ومن أجل تلك القيم كانت الفتوحات الإسلامية التي ضمّت مساحات شاسعة لمظلة حكم الإسلام، نَعِمَ فيها الفرد الإنسان بكافة الحقوق من عدالة وحريات، بل توقفت الدولة للحفاظ على تلك المكتسبات وحمايتها؛ فكل إنسان له حق، وكل حق يجب على الدولة توفيره وحمايته مهما كانت الظروف التي تمر بها.
ومما ساهم في ترسيخ تلك المفاهيم ليس فقط ورع الحاكم وخشيته وتلقيه الشرع عن طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- بشكل مباشر، وإنما وعي الأمة وعدالة أفرادها ومعرفتهم بما لهم وما عليهم، فلا عدل ولا حق ولا حرية بدون شعب يعلم يقيناً أن تلك بديهيات إقامة المجتمع وعماده.

قضية الوعي بين الحاكم والمحكوم

فمن الرعية من يحاسب عمر على ثوب أكثر طولاً من ثيابهم، وهذا قبطي يقطع المسافات من مصر إلى مدينة رسول الله؛ ليشكو الوالي لأمير المؤمنين على إهانة تعرض لها، قطع تلك المسافات بينما كان -منذ سنوات معدودة يسومه الرومان مُرّ الهوان ولا ينطق، لكنه في ظل حكم الدولة المسلمة عرف حقه فلزِمه، وقطع له المسافات باحثاً عنه وهو يعلم أن الحاكم لا يملك إلا أن ينصفه، إنه الوعي الذي يفرز حاكماً من وسطه، فما كان عمر إلا برعيته، وما كان الحجاج إلا برعيته.

ووقفت الأمة عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحُجُرات: 13]، فالخطاب لكل الناس -مسلم وغير مسلم- لكل مواطن يستوطن الأرض، ولا فضل لأحد على أحد، بلون، أو مال، أو ذرية، أو قبيلة، مرجعية، إلا بالتقوى، الناس متساوون، أحرار، مسؤولون.

وقيمة الحرية هي المبدأ الأول من مبادئ الإسلام، والتي فُرضَ على الحاكم المسلم التحرك وفقها، فلا إجبار على الدين، وقد توالت الفتوحات الإسلامية في زمن الخلافة الراشدة، لحماية هذا المبدأ: حرية التبليغ، حرية الاستماع، حرية الاعتقاد، ثم حرية ممارسة الدين الذي تختاره -أيا كان- والدولة كفيلة بتوفير الأجواء المناسبة لضمان تلك الحرية.

ومن المبادئ العامة لتلك القيمة، حرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنت كمسلم فرد أو مجتمع أو دولة لا تستحق الخيرية التي وصفك الله بها، ما لم تمارس تلك الحرية قولاً وفعلاً؛ فالسلبي الذي يتجاهل دوره ومسؤوليته لا قيمة له، ولا حقوق، ولا خيرية، يقول تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، والسلبي المتنازل عن ممارسة حريته، هو شخص محروم من كافة المزايا الإنسانية التي يميزه بها الانتماء للدين.

مظاهر الحرية في المجتمع المسلم

والخلافة الراشدة عموما وخلافة عمر خصوصاً زاخرة بالعديد من الصور والأمثلة على صيانة الحقوق والحريات، لكن نذكر بعضاً منها مما كان أو ترسخ في زمن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

• حرية الاعتقاد:
وتلك مبادئ ليست بدعاً في حكم الراشدين، وإنما قوانين وثوابت وضعها القرآن الكريم وشرحتها السنة المطهرة، فيقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، ويقول: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، ويقول سبحانه: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48].
فالمجتمع المسلم يقر للآخرين دينهم، ويوفر لهم أماكن العبادة اللازمة شرط ألا يؤثر ذلك على معالم المجتمع المسلم الظاهرية، وسمته الذي يميزه؛ بحكم القوامة الدينية والهيمنة التي خصه الله بها كدين خاتم، وقد تبلورت قيمة الحرية خاصة مع الفتوحات الإسلامية التي لم يُجبَر فيها ذمي، أو مشرك على ترك معتقده، طالما أنه ليس محارباً.

• حرية الحركة:
فلا يحق لحاكم مسلم، أو لمجتمع أو دولة أن تنتهك حرية الانتقال داخل وخارج الدولة لأي فرد من أفرادها، إلا في حالات نادرة تنبني عليها مصلحة ما؛ لوجود هؤلاء الأفراد في مكان ما، يؤدون فيه وظائف للدولة والمجتمع أكثر منها في مكان آخر، أو وجود مخاطر من طائفة ما فيجوز إبعادهم عن مراكز الحكم أو عمق الدولة كطائفة تمثل تهديداً من نوع ما، كما فعل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- حيث أجلى اليهود والنصارى من المدينة وغيرها من مدن الجزيرة العربية، ولم يعممه على بقية الأقطار الإسلامية المفتوحة، فكل فرد في الدولة يحق له العيش بحرية في أية بقعة، لا يحول دون ذلك قوة حاكم.

• حرية الملكية:
فالمسلم لا يهدد في ممتلكاته لخلاف مع السلطة الحاكمة، ولا تصادر أمواله، ولا تهدد حياته، وكل اقتراب من تلك الحقوق هو عدوان عليها، والله -عز وجل– يقول: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]، وأي اعتداء على الحرية الشخصية للإنسان، أو انتهاك لما هو أقل أو أكثر هو فساد في الأرض، يتنافى مع ثوابت الدين، ومن يعتدي على فرد بأية صورة، فكأنما اعتدى على الناس جميعاً -بالنص القرآني- ولهذا لما أُتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه، قال: (إنَّ الذي أدَّى هذا لأمين! قال له رجل: يا أمير المؤمنين، أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله تعالى، فإذا رتعت رتعوا) فرعية عمر رضي الله عنه صانوا الأمانة لم لم يتعد على أملاكهم ولم يصادر أموالهم دون وجه حق.

• حرية الرأي:
وإذا كانت الحريات فيما هو أقل من الرأي والإبداع والحركة مضمونة في المجتمع المسلم، فحرية الرأي أوجب؛ فكل تخصص في المجتمع المسلم له الحرية المطلقة داخل الإطار الإسلامي، فتركت حرية الاجتهاد والإبداع والنقد، وهذا عمر يدعو رعيته أن يقوِّمُوه إن هو أخطأ، فيقول أحدهم: "لو اعوججت هكذا لقومناك بالسيف هكذا"، وليس هناك حرية في التعبير أكثر من حرية انتقاد الحاكم وتقويمه ومحاسبته، غير أن تلك الحرية وضع الدين لها قواعد؛ كي لا تصير عبئاً على المجتمع بالخوض في الأعراض أو تهديد الآمنين، فالعقاب ينتظر من يخطئ في حق الآخر ولو بالقول أو الادعاء، ولم يترك الأمر مفتوحاً؛ حفاظا على حرية الجميع، مجتمعاً وأفراداً.

وكان عمر رضي الله عنه يدعو الناس لرفع مظالمهم إليه، دون محاسبة لهم على مظلمتهم أو اعتراضهم، وروري عنه أنه قال: (أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم. فمن فعل به غير ذلك فليقم. فما قام أحد إلا رجل واحد قام، فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ عاملك فلانا ضربني مائة سوط. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك. فقال: أنا لا أُقيد وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه. قال: فدعنا فلنرضه. قال: دونكم فأرضوه. فافتدى منه بمائتي دينار. كل سوط بدينارين).

لقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أمة كاملة في التطبيق الشامل والمتكامل والواعي للإسلام؛ فلم يترك منفذاً يمكن أن يؤتى من قبله الدين في قضية الحكم والحريات، فليس العدل مرتبطاً بعُمَر، وليست الحرية مرتبطة بالدولة في عهد عمر، إنما كان عمر –رضي الله عنه- منفذ تلك القيم والثوابت، والتي يجب تطبيقها في كل عصر، وفي رأيي أن الأمة لا تفتقد لعمر، بقدر ما تفتقد لرعية كرعية عمر، تلك الرعية الواعية المدركة والمتحركة للتنفيذ بفهم عميق، فهل تعي الأمة مالها، وتدرك ما عليها؛ لتعود وتتبوأ تلك المكانة التي تستحقها، والتي غابت عنها طويلاً.

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة مصرية، مهتمة بالشأن الإسلامي العام، حاصلة على بكالوريوس إعلام من جامعة القاهرة، وكاتبة في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية، لها العديد من المؤلفات المنشورة، مثل: المنهاج في الدروس المسجدية للنساء، معالم على طريق التمكين الحضاري، وأبجديات الثورة الحضارية وغيرها.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …