تعجّبتُ من أحد أصحاب الفكر والثقافة يدافع عن فكرة "الدكتاتور العادل" الذي يقود الجماهير العربية، لأن هذه الأخيرة -برأيه- سطحية ولا تفقه شيئًا من مصالحها، وتأخذها الغوغائية، فلا تفطن لما يراد لها من سوء، ولما يحاك لها من مؤامرة، فإذا تحرّكت كانت حركتها بلا بركة ومحض هياج وفوضى.
بادئ ذي بدء، لا أعلم كيف يجتمع نقيضان في عبارة واحدة، دون أن يشوبها الاضطراب والعوار، ودون أن تمجّها الأسماع وترفضها الأفهام وتنفر منها الفطرة السليمة القويمة. فعبارة "الدكتاتور العادل" عبارة ناشزة غريبة لا يمكن لصاحب الفكر السليم أن يقبل بها، ويحك، يا صاحبي المحترم، كيف تريد أن تجمع بين الشتاء والصيف تحت سقف واحد؟ وكيف من الممكن أن يوجد العدل في ظل أي دكتاتورية. إن وجود الدكتاتورية هو الظلم الأكبر في حياة الجماعات البشرية والأمم، لو مهما بلغ الدكتاتور من "كاريزما" قيادية ساحرة وتمتع بالنزاهة والوطنية والمواهب الفذة.
الجماهير العربية بحاجة لنخبة فكرية وثقافية تكون على مستوى المسؤولية وتضطلع بالدور المنتظر منها في إرساء قواعد الديمقراطية وترسيخ أركانها، وإجراء الرقابة على الحكّام والسياسيين ومحاسبتهم
لقد أثبتت التجارب في العالم أجمع أن كل التجارب الدكتاتورية كان مصيرها الفشل الذريع، لأنها تجارب جهيضة لا تحمل طابع الاستمرارية ولا تدخل في مشروع بناء الأمم. فمحورها القائد الفرد الاستثنائي، ولذلك فهي تجارب مبتورة مهما بلغت من روعة وكمال. فمصيرها النكوص والقهقرى لأنها محدودة مقيدة تقتصر على حياة فرد زائل بدل أن يكون محورها الأمة الخالدة والوطن الباقي. ومن مساوئ الأنظمة الدكتاتورية ذات المركزية في شخص القائد الأوحد أن عهود الحكم المتعاقبة لا تسير في اتجاه واحد، وهو مما يمكن أن يضمن ديمومة النمو والتطور. فكلما انتهى حكم دكتاتور ما، يأتي خلفه دكتاتورًا يحاول قدر استطاعته إلغاء مشاريع سلفه وإنشاء القطيعة معها، حتى لو كانت نافعة وضرورية وعظيمة. وهذا الامر يبدّد جهود الأجيال ويضيّع الكثير من الفرص على الوطن والأمة.
دكتاتوران أحببتهما لجملة من الخصال الحميدة وتأثرت بخطابهما. أحدهما مات قبل ولادتي وهو جمال عبد الناصر. والآخر عاصرتُ الشطر الأخير من فترة حكمه وهو فيديل كاسترو. الاثنان يمتلكان كاريزما ساحرة ومواهب فذة، ولكنني اليوم أرفض أي حكم دكتاتوري. وهذا لأني أؤمن بدولة المؤسسات والعمل الجماعي المنظَّم والمثمر، وفوق كل هذا، دولة العدالة والقانون التي تتمتع بسلطة قضائية صلبة ومتماسكة ونزيهة ومستقلّة. ومن نافل القول الإشارة إلى انتهاك منظومة القضاء وخرق القوانين والشرائع حتى في حكم المستبدين الرحماء نوعًا ما وغير البطّاشين.
الجماهير العربية ليست بحاجة إلى "دكتاتور عادل"، فهذا الصنف غير موجود منذ الأزل. فكل الدكتاتوريين ظالمون بدرجات متفاوتة، ويبقى النظام الدكتاتوري أسوأ الأنظمة على الإطلاق. وهذا ما كان معلومًا منذ زمن أفلاطون الذي اعتبر النظام الدكتاتوري أسوأ أنظمة الحكم الممكنة في كتابه الشهير والخالد: "الجمهورية". وقد دافع هذا الكتاب بقوة عن فكرة الحاكم الفيلسوف، واعتبر أن الحُكم المثالي هو ذلك الذي يتولّاه حاكمٌ حكيم راسخ في العلوم والآداب والفلسفة.
الجماهير العربية بحاجة لنخبة فكرية وثقافية تكون على مستوى المسؤولية وتضطلع بالدور المنتظر منها في إرساء قواعد الديمقراطية وترسيخ أركانها، وإجراء الرقابة على الحكّام والسياسيين ومحاسبتهم. وهذه النخبة يجب أن تكون من فئة المثقفين العضويين الفاعلين، وليس من فئة المثقفين المنفصمين عن الواقع والمنعزلين في أبراجٍ عاجية من النظريات والمثاليات الدونكيشوتية.
ليس لمثلك تأييد فكرة "الدكتاتور العادل" يا صاحبي. ولا تستهزئ بحراك الجماهير، فذلك الذي يحركه الوجع والقهر والبؤس يختلف كثيرا عن ذلك الذي يعيش في النعيم ويتمتع بعطايا الحياة الدنيا. وواجبنا، نحن أصحاب الفكر والقلم، أن نسعى جاهدين ومخلصين إلى تثقيف الجماهير وتوعيتها لكي ترتقي من درجة "الهمج الرعاع" و"الغوغاء" إلى درجة المواطنين الصالحين الساعين نحو بناء أمة متحضرة ووطن يسوده التقدم والرخاء.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة