من بين أهم فضاءات الجدل فيما يخص المشروع الإسلامي -بين مؤيديه ومعارضيه- قضية المحتوى السياسي للشريعة الإسلامية، وهل الإسلام دينٌ قادر على توليد نمط حداثي للحكم أم لا.
ومن غريب الأمر، أن الرد على التُرَّهات -التي تثار حول المشروع السياسي الإسلامي من جانب خصومه ومعارضيه- لا يشغل بال العاملين في الحقول الفكرية والتطبيقية للعمل الإسلامي فحسب؛ إذ توجد الكثير من الأقلام والعقول الغربية المُنصِفة التي اهتمت بتوضيح أركان تطبيق الإسلام في المجال السياسي، سواء منظومة الحكم أو الممارسة السياسية، والأخيرة هي الأكثر حساسية في هذه النقاشات؛ لأنها تتصل بطائفة واسعة من القضايا محل التشويش عند تناول منظومة الإسلام الشاملة، مثل حقوق الإنسان وحرية التعبير وتداول السلطة.
ومن بين أهم الأسماء الغربية التي عملت على إيضاح الصورة بشكل مُنصِف وعادل – وقد التقينا به من قبل في مكتبة الموقع - المستشرق والمفكر الفرنسي برتران بادي الذي له الكثير من الأدبيات التي تتقاطع في سياقات عدة، ومنها الدراسات المتعلقة بالدولة والنظم السياسية من زاوية الاجتماع السياسي، والدراسات الاستشراقية في المجال المعاصر.
اقرأ أيضاً: الدولة المستوردة
وفي هذا الإطار فإن بادي اهتم -أكثر ما اهتم- بفترة ثورات ما يُعرَف بالربيع العربي، والتي تجمع بين مختلف هذه الاهتمامات؛ ففيها مجال الدولة والنظم، والأحوال السياسية في العالم العربي بعد صعود نجم الإسلاميين.
ومن بين الكتب المهمة له في هذا المجال:
- كتاب: (أوضاع العالم 2013: حقائق القادة والأسباب الحقيقية للتوترات في العالم)، وقد ألفه بالمشاركة مع عالِم السياسة والاجتماع الفرنسي الأشهر (دومينيك فيدال).
- كتاب: (الدولة المستوردة: تغريب النظام السياسي) الذي سبق لنا تقديمه.
- بالإضافة إلى الكتاب الذي بين أيدينا الآن.
ويقول الناشر عن الكتاب، إن مؤلفه حاول الخروج عن النظرة التقليدية للدراسات الاستشراقية، وكذلك عن النظرة السلبية -التي سادت الكثير من الكتابات الغربية- عن تطورات الأوضاع في العالم العربي - في أعقاب طرح الإسلام السياسي لمشروعه في الحكم والإدارة - بعد ثورات الربيع العربي.
ومنهجية الكتاب معقدة؛ فعلى مستوى المحتوى: تجد جوانب كثيرة تأصيلية ونظرية، ثم إطاراً مقارناً في المجال التطبيقي -الذي اختاره للنظر في تجربة السياسة والحكم في الغرب، مقارنة مع العالم العربي والإسلامي– تاريخيّاً، وفي السياق المعاصر للثورات العربية وما أفرزته، أما على مستوى التقسيم: فقد وضعه المؤلف في أجزاء ثلاثة، تضمَّنت ثمانية فصول:
مع الكتاب
الجزء الأول من الكتاب/ تأملات في الحداثة
وقد تضمن ثلاثة فصول، الأول منها جاء في إطار تاريخي مقارَن عن الحداثة والمدنية في أوروبا في العصور الوسطى، وفي العالم الإسلامي في نفس الفترة الزمنية، وكيف حققت الحضارة الإسلامية الكثير من السبق على العالم الغربي في هذا المجال.
ولعل أهم ما أشار إليه في الفصول الثلاثة التي تضمنها هذا الجزء -في هذا الجانب- إدراك الدولة الإسلامية لعناصر الحضارة والتحديث، بما في ذلك نقطة التلاقح مع الحضارات الأخرى، وإدراك الاعتبارات التي تفرضها ثنائية الفرد والجماعة داخل المجتمع والدولة، فيما يتعلق بأنساق الحكم وسياساته، والصيرورات العامة لحركة المجتمع بشكل عام.
ثم تناول حركة التحديث التي ظهرت في أوروبا فيما يُعرَف بعصور التنوير، بدءاً من القرن السابع عشر بعد انتهاء مرحلة الحروب الدينية، وكيف أنها قادت تطورها في القرون التالية، إلى هيمنة النظام السياسي والاجتماعي الغربي، وهي الفكرة التي تأسس عليها من الأصل كتابه الآخر المهم "الدولة المستوردة"، والذي أشار فيه إلى أن هذه الهيمنة قادت إلى تشوُّهات في بنية الدولة القومية العربية الحديثة، وتبعية كبيرة -على مستوى القوى الأخرى في العالم أيضاً وليس العالم العربي فحسب- تحت شعارات مثل: "العولمة" و"القرية الصغيرة"، وغيرهما.
ويؤكد المؤلف هنا على نظرية الخصوصية، وقد تناول أدلته على ذلك في الفصل الثالث من هذا الجزء "هل يوجد علم اجتماع سياسي عالمي؟" فهو ينفي هذه الفكرة في ذلك الفصل، والتي هي جذر الهيمنة الغربية.
الجزء الثاني من الكتاب/ تنوُّع صيغ التطور السياسي
وتضمَّن الفصول من الرابع وحتى السادس، وقد تناول قضية استراتيجيات بناء الدولة والتحديث فيها، بالمقارنة بين النموذجَيْن الإسلامي والغربي.
ويصب هذا الجزء من الكتاب وفصوله في نفس الاتجاه الأساسي الذي أراده المؤلف لكتابه، وهو التأكيد على أنه لا يوجد نمط واحد للنظم السياسية والاجتماعية يصلح للتعميم، ولا يوجد نمط جيد وآخر غير جيد؛ لأن الملاءمة وفق اعتبارات الخصوصية هي التي يجب أن تفرض نظاماً بعينه دون الآخر.
وقد حرص المؤلف في هذَيْن الجزأَيْن -بفصولهما الستة- على ألا يكون حديثه تنظيريّاً بشكل كامل؛ فقد قدم الكثير من المعلومات التاريخية عن أنماط إدارة السياسة والحكم والاقتصاد في الكيانات الأوروبية ونظيرتها الإسلامية، بما في ذلك: النشاطات الاقتصادية المختلفة والضرائب، شكل الحياة اليومية، وكيف كانت الدولة تدير علاقتها مع المواطنين، وتدير علاقات المواطنين بعضهم ببعض.
وهنا تنبغي الإشارة إلى مركزية النمط الإقطاعي في الغرب - في عصور التنوير أيضاً - في مقابل نمط الدولة المركزية المكتملة الأركان الذي كان يعرفه العالم الإسلامي، وقد امتد هذا التصوُّر إلى الجزء الثالث من الكتاب.
الجزء الثالث من الكتاب/ نموذجان للمنازعة السياسية
وتضمن الفصلَيْن الأخيرَيْن من الكتاب؛ فتناول -في ذات الإطار المقارن- الدور الذي تلعبه الدولة في تحقيق الترابط الاجتماعي، ومعالجة المشكلات التي تطرأ على العلاقات بين المواطنين، أو بين الدولة والمواطن.
وفي هذا القسم من الكتاب يؤكد الكاتب على أن النظام السياسي والاجتماعي للدولة في الغرب لم يكن بعيداً عن الهوية الدينية المسيحية -بخلاف الصورة الشائعة- وهو يفند بذلك الادعاءات الغربية -التي يرددها المستشرقون- عن أن أهم مشكلات النظام السياسي الإسلامي هي أنه يقوم على أساس ديني.
وقد اختار المؤلف في نهاية كتابه أن يعيد التأكيد على الرسالة الأساسية التي تناولها في كتابه "الدولة المستوردة"، وهي خطورة السعي إلى فرض نمط سياسي بعينه -من مجتمعات وبيئة أخرى- على مجتمعات مختلفة عنها في هويتها بالكلية.
ويقول في الصفحات الأخيرة لكتابه "الدولتان": إن هذه المشكلة هي أحد أهم أسباب الأزمات التي تواجه العالم العربي والإسلامي في العقود والسنوات الأخيرة.

برتران بادي
مع المؤلف:
برتران بادي، و"بادي" هو أستاذ في العلاقات الدولية، في معهد الدراسات السياسية بباريس، وأستاذ مشارك في مركز الدراسات والأبحاث الدولية في العاصمة الفرنسية.
وله اهتمام كبير بفرعَيْن رئيسيَّيْن من الكتابات السياسية، النظم السياسية والاجتماعية، بينما كان على المستوى التطبيقي، له اهتمام بالأوضاع في العالم العربي والشرق الأوسط والعالم الإسلامي، سواء على المستوى السياسي والاجتماعي، أو على مستوى التطورات الداخلية، ولاسيما بعد ثورات الربيع العربي.
ومن بين أهم كتبه: "سوسيولوجيا ماكس فيبر"، و"الدولتان.. الدولة والمجتمع في الغرب وفي دار الإسلام"، و"عالم بلا سيادة..الدولة بين المراوغة والمسؤولية"، و"أوضاع العالم (2013) حقائق القادة والأسباب الحقيقية للتوترات فى العالم"، ووضعه بالاشتراك مع عالِم السياسة والاجتماع الفرنسي، "دومينيك فيدال"، وأخيرًا كتاب "السياسة المقارنة"، ووضعه بالتعاون مع الكاتب الفرنسي "جيه.هيرمت".
بيانات الكتاب:
اسم المؤلف: برتران بادي
ترجمة: لطيف فرج
عنوان الكتاب: الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام
مكان النشر: القاهرة
الناشر: مدارات للأبحاث والنشر
تاريخ النشر: يناير 2017م
الطبعة: الأولى لمدارات للأبحاث والنشر
عدد الصفحات: 288 صفحة من القطع الكبير