أحدُ المحسوبين على التيار السلفي (الرسمي) في الأردن؛ لا يخجل من أن يفتي بإحراق كتب الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله، فيقول في إحدى محاضراته متحدّثاً عن الشهيد: «.. ويسوَّق هذا القائل على أنه مفكِّر، وإمام، ومفسِّر، وعظيم يُشار إليه بالبنان، وهو جدير -والله- بأن تُحرق آثاره، وأن تُبتَرَ أفكاره، لأنّه لم يأت منها إلا الويل والهلاك والثبور...».
واطلعتُ على حوار لم يُنشر مع القائل نفسه، يقول فيه: «لو كان الأمر بيدي لأحرقت كتب سيد قطب»!
ومع أن هذا المُطالِب بحرق كتب سيد قطب رحمه الله؛ يعدُّه أتباعه شيخ السلفية في بلاده وإمامها الأول، ويدندن -هو- ليل نهار على أن مشايخه الذين لا يخرج عن قولهم قيد أنملة هم: (الألباني، وابن باز، وابن عثيمين) ويصف في كتاب له كلام هؤلاء الثلاثة بأنه «القول الفصل الذي ينقطع أمامه كل كلام، ويزول دونه أي تهويش حماسي عاطفي فارغ» ويصف الحكم الذي يتفق عليه هؤلاء الثلاثة بأنه «لا يبعد عن الصواب -كثيراً- من يدّعي أنه الإجماع، وأنه الحق، وأنه الهدى والرشاد، لأنهم أئمة الزمان، وعلماء العصر والأوان»!!
مع كل هذا الغلو؛ فإنه يضرب بآراء هؤلاء في كتب سيد قطب عرض الحائط، مطالباً بإحراقها وبترها!
أما الألباني؛ فرغم أنه يبدي تحفظه على بعض كتابات سيد قطب -وخاصة القديمة منها، وبالأخص كتاب «العدالة الاجتماعية»- إلا أنه لم يتجرأ على المطالبة بإحراق كتبه، بل إنه يثني عليها في عدة مواضع، حيث وصفها بالأوصاف الآتية التي أنقلها من كتاب «كلمة حق للمحدث الألباني في سيد قطب» الصادرِ بعناية كاتب هذه المقالة، قال الشيخ الألباني رحمه الله:
- «وقد أحسنَ سيد قطب حين دفع شُبهة مَن قد يقفُ عند صورة من صور الشرك..» (ص33).
- «بفضل جهود وكتابات بعض الكتّاب الإسلاميين؛ مثل سيّد قطب رحمه الله تعالى» (ص33/الحاشية).
- «له كلمات -في الحقيقة، خاصّة في السجن- كأنّها من الإلهام» (ص34).
- «وكتب بعض الكتابات كأنّها بقلم سلفيٍّ» (ص44/الحاشية) و(ص84).
- «ولقد تنبّه لهذا أخيراً بعض الدّعاة الإسلاميين؛ فهذا هو الأستاذ الكبير سيد قطب رحمه الله تعالى..» ثم نقلَ عنه كلاماً من «معالم في الطريق» (ص46/الحاشية).
- قال الشيخ عدنان عرعور: «هل قلتم مرةً أنّ كتابَ (معالم في الطريق) توحيدٌ كُتب بأسلوبٍ عصريٍّ؟
فأجاب الألباني: أنا أقول: إنّ في هذا الكتاب فصلاً قيّماً جدّاً عنوانه: (لا إله إلا الله منهج حياة) هذا الذي أقوله، وأنا قلت آنفاً: الرجل ليس عالماً، لكن له كلمات عليها نور، وعليها علم، كهذا الفصل من كتابه، وأنا أعتقد أنّ كثيراً من السّلفيين لم يتبنّوا معنى هذا العنوان (لا إله إلا الله منهج حياة).
قال عرعور: لقد قلتم هذا الكلام لي شخصيّاً في بيتي منذ خمس وعشرين سنة.
فقال الألباني: ممكن، لأنّي ما أذكر ما أقول» (ص60 - 61).
- «(معالم في الطريق) فيه بحوث قيّمة جدّاً» (ص62).
وأما الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله؛ فإنه يصف تفسير «الظلال» لسيد قطب بقوله: «التفسير عظيم ومفيد، ولكنه لا يخلو من أخطاء ومن أغلاط» (كلمة حق، ص27).
فهل يتوافق هذا الكلام مع تلك "الفتوى النارية" التي تطالب بحرق كتب سيد قطب وبترها؟!
وأما الشيخ ابن عثيمين؛ فإنه يقول في تفسير «الظلال» لسيد قطب: «أنا لم أقرأه، لكن قرأت بعض المؤاخذات عليه من بعض علمائنا الأفاضل، وهو في بعض المباحث له مباحث جيدة حسب ما نسمع من بعض الإخوان» (كلمة حق، ص47).
فالشيخ ابن عثيمين وإن كان لم يقرأه؛ إلا أنه يقرر ما نقله له بعض الإخوة الثقات من أن له في «الظلال» مباحث جيدة، ولم يتوافق قوله مع قول صاحبنا (الحرائقي!).
ومما يحسن ذكره في هذا المقام؛ أن مفتي السعودية الحالي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ -ولا أظن أن صاحبنا يجرؤ أن يطعن في سلفيته!- يقول في تفسير «الظلال»: «طالبُ العلم إنْ قرأَه يستفيد» (مقطع صوتي للشيخ منشور على الإنترنت).
فأنت ترى أن الأشياخ الثلاثة -بل الأربعة- لا يقولون بما يقول به هذا الذي يزعم أن قولهم هو القول الفصل الذي ينقطع أمامه كل كلام!! فما بالُ كلامه لم ينقطع؟!
ليس المقصود من هذه المقالة حصر جميع أقوال هؤلاء المشايخ ومناقشتها قولاً قولاً، ولا يلزم من نقلها إقرار جميع ما ورد فيها، وإنما المقصود بيان حالة تعبّر عن انفصام خطير بين القول والعمل، يعاني منها بعض المحسوبين على بعض التيارات الإسلامية التي هي أولى من غيرها بالتزام قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون. كبرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف:2-3].
تنبيه: الحديث عمّن يطالب بإحراق كتب سيد قطب ممن ينتسب إلى (السلفية الرسمية) لا يشمل كل من ينتسب إلى السلفية عموماً، فإني أعلم أن أكثرهم يبرأون إلى الله تعالى من هذا الكلام الثوري الأهوج.