انتشرت في الآونة الأخيرة -في بعض الأقطار الإسلامية وعلى ألسنة بعض المنتمين للحركة الإسلامية التي تمر بمحنة شديدة في إحدى أهم حلقات الصراع بين الحق والباطل في بلاد المسلمين- مقولة تقول "يكفينا ما بذلناه من تضحيات، وعلى المسلمين أن يتحملوا ضريبة حرياتهم، وعليهم أن يتقدموا الصفوف ونحن نتبعهم، أو أن عليهم أن يكملوا الطريق من حيث انتهينا، أو عليهم أن يذوقوا الهوان الذي ذقناه في سبيل تحريرهم وهم نيام، ويدفعوا ثمناً موازياً للذي دفعناه، أو الدعاء عليهم مقابل عدم الدفاع عنا وقت المحنة والتخلي عنا"!
وقد اتخذ آخرون موقف المتفرج على الأحداث الخطيرة التي تمر بها الأمة: استبداد غير مسبوق، عمالة ظاهرة للعيان، تنكيل بشع لأفراد الحركة الإسلامية يصل حد تصفية الأبرياء، وتناسى هؤلاء أن طبيعة الطريق إلى الله وإرث الأنبياء يقتضيان الثبات برغم الصراع الدائر بين الحق والباطل، والذي لن ينتهي إلى أن تقوم الساعة ، وأن الملايين على طول الطريق منذ عهد آدم وحتى اليوم لم يقيلوا أنفسهم من العمل لله بكل تبعاته وشدته، وأن من فعلوا ذلك استبدلهم الله وأمكن منهم، وأتى بمن هم خيرٌ منهم، تحملوا العبء راضين مختارين، وفقهوا طبيعة دعوة الله وسننه فقدّموا الأسباب كاملة، منهم من قدم نفسه في سبيل الله فمات دون عقيدته ففاز بالجنة، ومنهم من ثبت ففاز بالنصر والتمكين. توكلوا على الله حق التوكل، فعملوا بالجوارح وقلوبهم معلقة برب السماء، لم يلتفتوا لكائن؛ لأنهم ببساطة لم ينتظروا الأجر من أحد، وإنما كان العمل لله مجرداً، مخلصاً، فلم يثنهم لوم لائم، أو تخلي مقرب، أو عداء البعيد، تلك هي الفئة المخلصة.
سنة الابتلاء
الابتلاء هو سنة من سنن الله -عز وجل- في خلقه، مقررة في كتاب الله، يقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، وقال جلَّ شأنهُ: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2].
ولا تمكين بغير ابتلاء واختبار، والتاريخ يذكر أنه لم يمكن لأمة - أو لفئة أو لنبي أو مصلح - إلا بعد التعرض لابتلاء شديد وزلزلة تهز النفوس، وشدة تصهرها، وصبر من فولاذ، واستمرار وثبات على الطريق، وحين تتمايز الصفوف، ويميز الله الخبيث من الطيب يتنزل النصر على الفئة المؤمنة مهما قل العدد، وضعفت العدة.
التاريخ يذكر أنه لم يمكن لأمة - أو لفئة أو لنبي أو مصلح - إلا بعد التعرض لابتلاء شديد وزلزلة تهز النفوس، وشدة تصهرها، وصبر من فولاذ، واستمرار وثبات على الطريق
ولم يُسْتَثْنَ نبيٌ من الأنبياء من تلك السنة، فقد ابتلي نوح -عليه السلام- ليظل تسعمئة وخمسين سنة يدعو قومه فما استجاب له إلا القليل منهم، وإبراهيم -عليه السلام- وضع في النار، وموسى -عليه السلام- خرج من أرضه وطرد خارجها، وعيسى -عليه السلام– حاول قومه قتله حتى رفعه الله إليه، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسل - نعلم جميعاً كمّ الابتلاء والإيذاء اللذين تعرض لهما بين قومه حتى هاجر إلى يثرب -وترك بلاد آبائه وأجداده وتجارته وحياته- في سبيل دعوة ربه.
ولولا الابتلاء ما كان هناك تمحيص للنفوس، ومعرفة الرث والثمين منها فيقول سبحانه في سنة التمحيص: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2].
ولولا الابتلاء ما حسنت تربية الفئة المؤمنة وتدريبها على الثبات والجلد والتحمل ، يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله– في هذا المعنى: «ثمَّ إنَّه الطَّريق الَّذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة الَّتي تحمل هذه الدعوة وتنهض بتكاليفها، طريق التربية لهذه الجماعة، وإخراج مكنوناتها من الخير، والقوه والاحتمال، وهو طريق المزاولة العمليَّة للتَّكاليف، والمعرفة الواقعيَّة لحقيقة النَّاس، وحقيقة الحياة؛ ذلك ليثبت على هذه الدَّعوة أصلبُ أصحابها عوداً، فهؤلاء هم الَّذين يصلحون لحملها -إذاً- بالصَّبر عليها، فهم عليها مؤتمنون».
ولولا الابتلاء ما تكشفت النفوس قوة وضعفاً، فيقول كذلك صاحب الظلال: «والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوفٌ لعلم الله، مغيَّبٌ عن علم البشر، فيحاسب النَّاس -إذاً- على ما يقع من عملهم، لا على مجرَّد ما يعلمه سبحانه من أمرهم، وهو فضلٌ من الله من جانبٍ، وعدلٌ من جانبٍ، وتربيةٌ للنَّاس من جانبٍ، فلا يأخذون أحداً إلا بما استُعلِن من أمره، وبما حقَّقه فعله؛ فليسوا بأعلمَ من الله بحقيقة قلبه».
ولولا الابتلاء ما أُعِدت الأمة لتحمل الأمانة، والله - عز وجل - لا تتوافق إرادته مع تعذيب الفئة المؤمنة، ولا تتوافق مع هزيمتهم، ولا تتوافق مع إرادة الكافرين فترفع من شأنهم، إنما هو الاختبار لرفع شأن المؤمن، وحثه على العمل وبذل الجهد والأخذ بالأسباب التي وضعها الله في الكون كقوانين أرضية تنظم العلاقة بين البشر مؤمنهم وكافرهم، فالنفس الضعيفة التي لا تتحمل الفتن لا تستطيع تحمل تبعات الرسالة والأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان بجهالته، فمن يتحمل ويثبت ولا يلين أمام الفتن يستحق التمكين، ويستحق حمل أمانة العدالة والحرية والخيرية بين الناس ، يقول الشهيد سيد قطب: «لقد جعل الله الابتلاء ذلك لكي تعزَّ هذه الدَّعوة عليهم، وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من جهدٍ وبلاءٍ، وبقدر ما يضحُّون في سبيلها من عزيزٍ، وغالٍ، فلا يفرِّطون فيها بعد ذلك مهما كانت الأحوال».
والنصر السريع السهل لا قيمة له، وإذا كان النصر حليف المؤمنين بغير تعب أو كَبَد لانهال عليهم الفاسدون والظالمون طمعاً في التمكين بدون استحقاق له.
إذا كان النصر حليف المؤمنين بغير تعب أو كَبَد لانهال عليهم الفاسدون والظالمون طمعاً في التمكين بدون استحقاق له
سنة الأخذ بالأسباب واقتناص الفرص
يحتجون بالقدر، ويدّعون اللجوء للصبر في انتظار فرج السماء التي سوف تمطر النصر على الثابتين؛ بحجة نفاد الأسباب وتوقفها، والحقيقة الواضحة للعيان هي أن الأسباب لم تتوقف، وإنما انشغلت بغير الرسالة، وطوعت لصاحبها بما يتوافق مع هواها لا مع شريعة الله وسننه، والمسلم كيِّسٌ فَطِن، يعلم أن الأسباب هي من قدر الله، ويعلم أن السعي هو حسن التوكل على الله، ومن العجيب أن تلك الفئة إذا اعتراها بعض المرض، فهي تذهب للطبيب تلتمس الدواء، وإذا لم يتحسن مع الوقت، فيوقن أن هناك خطأ ما، ولا يوعز النتائج للقدر، إنما قد يعنف الطبيب المعالج، وقد يذهب لطبيب آخر، أو يغيِّرُ الدواء، فهو يسعى بكل الطرق المتاحة للاستشفاء من الداء الذي أصابَه، في حين أنه حين يمس الأمر الدعوة نجد التكاسل والاستسلام والخنوع والانتظار وكأن السماء تمطر ذهباً وفضة، فلماذا نجعل الدين أهون من أمور الدنيا في حين أن فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة!
وهنا أتساءل: هل قصَّرَ أحدُنَا في تعليم نفسه أو أبنائه بحجة أن ذلك قدر الله؟ هل قصرنا في التماس العلاج حين نمرض احتجاجاً بالقدر؟ هل كففنا عن العمل والسعي لكسب الرزق بحجة القدر؟ هل مكثنا في بيوتنا وكففنا عن السفر والارتحال بحجة القدر؟ هل ارتضينا بالجوع والعطش ولم نلتمس أسباب الشبع منهما بحجة القدر؟ فلماذا نهون حين يتعلق الأمر بالدين والجهاد وحسن التوكل في رفع راية الحق؟
يقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وهنا تتجلى رحمة الله وعدله في كلمة "ما استطعتم" فلم يكلفنا الله بما هو فوق طاقتنا، وإنما كلفنا ببذل ما هو في قدرتنا واستطاعتنا، بذل كافة الأسباب الممكنة مهما كانت بسيطة ولو توقفت على الكلمة، وأفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر، والمؤمن القوي خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف.
إن ما يحدث للمسلمين اليوم يدمي القلب، وأكاد أجزم أنه لا يوجد مكان في العالم اليوم -إلا القليل- لا يعذب فيه مسلم، ولا يهدد في دينه وحريته وعِرْضِه ورِزْقِه، فأنى لهؤلاء الخروج مما هم فيه مع حالة السكون والاستسلام التي تطغى على هؤلاء المنوط بهم تغيير وحل المشهد الجاثم على صدور المستضعفين، على أمل أن يتغير من تلقاء نفسه.
إن التنازل عن العمل مع الله بأية حجة يزينها الشيطان هو إقالة للنفس من العمل لله، وإن دين الله غالب لا محالة، ونحن من يحتاج إلى العمل له وليس هو من يحتاج إلينا ، وإن لم نكن على قدر المسؤولية سيأتي الله بقوم -ليسوا مثلنا، بل خير منا- يحملون رسالته، إنه الاستبدال أيها الدعاة.