منذ نحو قرنَيْن من الزمان، دخلت الأمة المسلمة مرحلة من الركود الحضاري، تلتها حالة من التخلف والتفكك لم تعرف لها مثيلاً عبر تاريخها.
ففي الفترات التي خاضت فيها دولٌ إسلامية حروباً وصراعات قومية أو مذهبية مع بعضها البعض- مثل الصراع الصفوي مع الدولة الهوتاكية/ الأفغانية، أو الصراع الصفوي/ العثماني - ظلت هناك دائماً مساحة من التلاقي يجتمع فيها المسلمون، وبقعٌ من الضوء ينطلقون نحوها.
وفي أشق الظروف أيضاً، مثل: الحملات الصليبية، وفي فترة الغزو المغولي المروِّع الذي أطاح بالخلافة العباسية العتيدة، كان دائماً هناك أرضية حضارية واضحة، وهناك ما يقدمه المسلمون في ميدان المنجز الحضاري الإنساني.
وهذا ليس حماسةً باعتباري مسلماً، وإنما هي حقائق واقعة أكدها التاريخ؛ ففي هذه الفترات، كانت فترة النقل والترجمة الخصبة من جانب الأوروبيين للمنجزات الحضارية للعلماء المسلمين، والتي أسست لفترة أو ما يُعرَف بعصر التنوير في أوروبا بين القرنَيْن السابع عشر والثامن عشر الميلاديَّيْن.
فَلَم يعرف التاريخ إطلاقاً فترة انقطاع طويلة للإسهامات الحضارية للمسلمين علماء ومفكِّرين، في مختلف المجالات والاتجاهات، العلمية والفكرية والثقافية، بل في مجال الفلسفة والمنطق أيضاً، والتي هي أساساً مبتكرات تاريخية للحضارة اليونانية القديمة.
لَم يعرف التاريخ إطلاقاً فترة انقطاع طويلة للإسهامات الحضارية للمسلمين علماء ومفكِّرين، في مختلف المجالات والاتجاهات، العلمية والفكرية والثقافية، بل في مجال الفلسفة والمنطق أيضاً، والتي هي أساساً مبتكرات تاريخية للحضارة اليونانية القديمة
وهذا ما لا نراه الآن، ومن المهم للغاية هنا الإشارة إلى أن هذا الوضع المتقدم الذي كانت عليه الحضارة الإسلامية، كان في عهدة المفكرين والعلماء على وجه الخصوص؛ فقد كانوا هم الأكثر فهماً لكتاب اللهِ تعالى وقوانين العمران التي جاءت فيه.
في القرون المتقدمة والمتأخرة كذلك، كانت توجد الكثير من الأمور الواضحة التي يتحرك العلماء والمفكرون المسلمون بها، كان أهمها فصل أنفسهم ومواقفهم، ونتاجات أفكارهم ومنجزاتهم في المجالات المختلفة، عن الواقع السياسي القائم .فلم يكن لديهم آفة العصر الحالي، بأن كل ما يفعله هذا الحاكم أو ذاك، أو تفعله هذه الدولة أو تلك، هو الإسلام ولا شيء غيره، وكانوا ينأون بأنفسهم عن أية صراعات قومية أو مذهبية، وكانوا يميِّزون بين الدين ودقائقه وحقائقه، وبين تلبُّسَات البعض به لتبرير أعمال وجرائم وحروب تصب في مصالح دول وأنظمة، ولا شأن لها بقضية الدين والمشروع الحضاري الإسلامي.
وكانت ظروف العصر تساعدهم على الانعزال عن كل هذه الأهواء وريح الصراعات والتجاوزات، ويتفرغون لما يفعلونه، ولذلك نجد أنه في أسوأ أوقات الصراعات البينية بين دول وكيانات مسلمة، كانت المنجزات -وفي أصعب المجالات- تتحقق بالتوالي، بما في ذلك العلوم التطبيقية الصعبة البحث، والتي بحاجة إلى مقدَّرات وأدوات، مثل الفلك والطب والفيزياء.
وساعد على ذلك وجود بُنْيَة فكرية متوارثة ومؤسس لها من الكتاب والسُّنَّة، وخصوصاً السيرة النبوية؛ فهي تحمل علامات مهمة على محور هذا الحديث، وهي قضية التداول الحضاري.
يقول تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]، ويقول أيضاً في ذات جذر المعنى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 1، 2، 3]، و: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
وفي القرآن الكريم طائفة واسعة من القَصَص، منها قَصَص تتعلق بالأوَّلِين، وكيف زالت حضارات وظهرت أخرى في نفس المكان، وآيات شديدة الوضوح فيما يتعلق بتناول مراحل صعود وتداول الأمم والحضارات، التي فصَّلها شرحاً واجتهاداً ابن خلدون وأستاذه ابن أبي الربيع وسائر علماء العمران والاجتماع المسلمين، وتعلمه منهم الغرب نفسه.
والسيرة النبوية الموثَّقة بشكل كبير في كل دقائقها، تكشف عن نواحٍ تطبيقية عديدة في موضوع التداول الحضاري هذا، ولا سيما فيما يتعلق بسُنَن الاستضعاف والتمكين... وغير ذلك، بدءاً من مرحلة سرية الدعوة، ثم الجهر بها، ثم الهجرات المتتالية، وصولاً إلى الهجرة إلى المدينة المنورة، ثم مرحلة صلح الحديبية، وحتى فتح مكة وتمكين دولة الإسلام الأولى على كامل شبه الجزيرة العربية.
السيرة النبوية الموثَّقة بشكل كبير في كل دقائقها، تكشف عن نواحٍ تطبيقية عديدة في موضوع التداول الحضاري هذا، ولا سيما فيما يتعلق بسُنَن الاستضعاف والتمكين... وغير ذلك
وأهم دروس هذه النصوص والحوادث التاريخية، أنها تضمنت مسألة مركزية غاية في الأهمية، وهي ضرورة أن يؤدي المسلمون -عامتهم وخاصتهم، وخصوصاً على المستوى الفردي، في كل مجال من المجالات- ما عليهم من واجبات، بعيداً عن أية تطورات سلبية تحدث في اتجاه آخر.
فالدعوة إلى الإسلام لم تتوقف في مرحلة الاستضعاف المَكِّيَّة، ولم تتوقف جهود بناء الدولة وتعضيد مجتمعها بمكوناته المختلفة في المدينة، لا في فترة غزوة الأحزاب، ولا عند وقوع فتنة صلح الحديبية. بل إن هذا المرتَكَز المفاهيمي كان هو الذي ساعد على وأد فتنة الحديبية فور وقوعها.
فلولا فهم المسلمين الأوائل لسُنَّة التداول، ما قبلوا المنطق النبوي الذي دعاهم إلى قبول ما رأوه هم دونيّاً وقت الحديبية، وفي أوقات أخرى، مع إيمانهم بأنه في مرحلة مقبلة سوف تنعكس موازين القوى، ويمكّن الله للمسلمين كما وعد - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم.
وكانت -حتى قرون قريبة- تتشكل وتنهدم دول وحضارات في المجال الإسلامي، ولكن –كما قلنا– يستمر هذا العالِم أو ذاك في تقديم مُنتَجه، ويقدم هذا الوالي أو ذاك الجديد في مجال العمران المباشر لمفهوم العمران، وهو العمارة الإسلامية، والبناء والتشييد، وتأسيس المدن والمراكز الحضرية والحضارية الجديدة.
وكانت الفتوى تلاحق ذلك كله، وهو دور آخر للعلماء والمفكرين في اتجاه أو في مجال آخر؛ فلم تنقطع الفتاوى التي كان يتطلبها البحث في هذا المجال أو ذاك، وخصوصاً المجالات التي تشوب النشاط فيها بعض التحسسات الشرعية، مثل الطب والفلسفة والفلك.
ففي الوقت الذي كانت دولة الإسلام في الأندلس، والدولة العباسية المركزية في بغداد تمر بمراحل من الضعف وتعاني من تداول الأمم والدول؛ كان أحمد بن ماجد والإدريسي يجوبان أطراف الأرض، ويستكشفون هنا وهناك، ويرسمون الخرائط ويحفظون الطرق التي تعد أهم مرتكزات حركة الكشوف الجغرافية الأوروبية، والتي هي كما يعلم المتخصصون في مجال التاريخ والاجتماع السياسي أنها جذر وأساس للحضارة الغربية الحديثة كافة، بطابعها الرأسمالي التوسُّعي.
هذه المفاهيم غير واضحة مطلقاً في عصرنا الحالي الذي يُعدّ - وفق كل معايير القياس والمقارنة الموضوعية - أكثر عصور المسلمين استجابةً لاستراتيجيات التعطيل الحضاري من جانب خصومهم.
في الوقت الذي كانت دولة الإسلام في الأندلس، والدولة العباسية المركزية في بغداد تمر بمراحل من الضعف وتعاني من تداول الأمم والدول؛ كان أحمد بن ماجد والإدريسي يجوبان أطراف الأرض، ويستكشفون هنا وهناك، ويرسمون الخرائط ويحفظون الطرق التي تعد أهم مرتكزات حركة الكشوف الجغرافية الأوروبية
ووصل عمق هذا الأمر إلى درجة أن العالِم أو الداعية الذي يعمل في أمريكا اللاتينية، يمكن أن يتزعزع نشاطه ويتشتت بسبب أزمة سياسية تقع في الشرق الأوسط.
هذا بطبيعة الحال، يعكس أوجه خلل في المناهج والتأسيس الفكري، وعدم الالتفات إلى الأثر الخطير والعميق لمنجزات العصر في مجال الاتصال والاجتماع الإنساني، وتطور هذا الأخير إلى صورٍ أكثر تعقيداً، حتى وصلنا بالفعل إلى مرحلة "المواطن العالمي"، وكل هذا نحن غائبون عنه بالمعنى الحرفي.
إن مهمة مواجهة ذلك لا تقع على عاتق الحكومات والدول مطلقاً؛ فهذه مهمة العلماء والدعاة والمفكرين -كما كانت عبر التاريخ دائماً، وكما رأينا في قشور أشرنا إليها في هذا الموضع من الحديث- فلندَع الحُكَّام يختلفون، ولندَع الدول تتعارك وتقتتل، ولكن ليبقى رموز الفكر والتنوير والعلماء في شؤونهم؛ يبتكرون ويبدعون.
ونذكِّر هنا للمتعلِّلين بصعوبات الأوضاع، وعدم القدرة على ذلك عند نقله إلى المجال التطبيقي، أن أحمد بن حنبل وأقطاب الفقه والعلم المسلمين في العصور السابقة، كانوا متمكنين من دينهم، عقيدةً وفهماً، لدرجة أنهم ألفوا أعظم كتبهم ووضعوا أعظم مكتشفاتهم وهم في أقبية سجون السلاطين والولاة الظالمين!