قلوبنا القاسية… الأسباب والعلاج

الرئيسية » بصائر تربوية » قلوبنا القاسية… الأسباب والعلاج
man- depressed

لا شك أن قلب المرء ليس كبقية الجسد؛ فهو محل نظر الله سبحانه وتعالى، كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ" (رواه مسلم) وأيضاً: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" (متفق عليه).

ولما كانت القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، صار الوقوف حتمياً في معرفة أسباب قسوة القلب، كمرض داخلي له تأثير شديد على المسلم في دنياه وآخرته؛ فطريق الصلاح والنعيم شرطه أن يكون المرء ذا قلب سليم ، والقلوب القاسية -يقينا - ليس لها حظ من النعيم حتى تستقيم؛ فقسوة القلوب داء عضال وعليه فإن أسباب هذه القسوة:

1. الوهن

إن المرء ذا القلب القاسي أصابه الوهن، وليس المقصود هو التعب، بل ما ذكره النبي –صلى الله عليه وسلم- في حديث: "تُوْشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت" (رواه أحمد وأبو داود).

هذا هو الواقع: الركون للحياة والرغبة في الخلود وكراهية الموت، بل والنفور من مجرد سماعه، بالرغم من أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أوصى أن أكثروا من ذكر هادم اللذات (وهو الموت)، وعليه فإن إصابة القلب بهذا الوهن يحول بين العبد والطاعة، فلا يسعى لرضا الله، أو يرجو رضاه، بل يسير في الدنيا يركض يميناً ويساراً، يسعى فيها بلا قيود تحكمه، أو ضوابط تقيّمه، أو حدودٍ يتحاشها، وما أخبثها من حياة يخسر بها المرء حياته وآخرته.

إن إصابة القلب بالوهن يحول بين العبد والطاعة، فلا يسعى لرضا الله، أو يرجو رضاه، بل يسير في الدنيا يركض يميناً ويساراً، يسعى فيها بلا قيود تحكمه، أو ضوابط تقيّمه، أو حدودٍ يتحاشها

2. نافخ الكير

والمعنى مأخوذ من حديث النبي الأكرم عن الجليس الصالح والجليس السوء، ووصفه للجليس السوء بنافخ الكير؛ فهو رفيق يرشد صاحبه إلى المعاصي والتلذذ بمتاع الدنيا الزائل بدون خشية أو مراقبة، بل يزين ذلك وكأنه شيطان من الإنس -والعياذ بالله- ولو فشل في تزيين المنكر لصاحبه فإن أثره الخبيث سيحرق ثياب صاحبه، والمعنى أنه كله شر ولا خير يأتي منه؛ فلا يذكر بطاعة، أو يسعى في معروف، أو يوصي ببر، أو يرغب في إصلاح، وعليه لا بد للمرء أن يستفيق قليلاً قبل الانخراط مع صاحب ورفيق لا يرى لله وجوداً في قلبه، ولنا في قصة عقبة بن معيط مع أبي جهل مثالاً حياً في الصاحب الذي أورد صاحبه النار وأضاع عليه دنياه وأورثه ندم الآخرة.

3. تأخير العودة والتوبة

إن الحياة سفرٌ طويل وشاق يذهب فيه المرء ويعود، ينتقل من مكان لمكان، يسافر كثيراً ويعود أكثر، يستمتع بها ويحيا فيها، وعليه فإن أية رحلة فيها الذهاب والعودة، والطريق إلى الله كذلك، مهما ذهبت عنه لا بد أن ترجع إليه نادماً معتذراً قبل فوات الأوان، يقول تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].

فكلما طال البعد زاد الجفاء، وعظمت قسوة القلب، وكثرت معها الذنوب؛ فالقلب رمانة ميزان صلاح المرء.

الحذر؛ لأن في إطالة البعد ربما يأتيك الموت وأنت على وضعك القاسي، وقلبك المتجبر، وعندها لن ينفع الندم، ومهما قلت: "رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت" فسيكون الرد هو الرفض، كم أمهلت لكي يعود قلبك ويرجع عن قسوته فلِمَ لا تتوب أو تعود أو تعجل بالتوبة والإفاقة من طريق الشيطان.

ونحن كما ذكرنا الأسباب سنذكر العلاج؛ لكي نصف الداء ونحدد له الدواء، وهذا من تمام الحرص على النفس أولاً، وعلى العباد؛ فالمسلم النافع لغيره من خيرة العباد، وواجب الجميع اليوم –وفي القلب منهم الفئة المثقفة- أن توعي وتوقظ الإيمان في القلوب والضمائر، وعليه فإن العلاج يكمن في الآتي، وكلها أعمال صالحة؛ فموطن الداء خطير وعليه فالدواء هو:

1. العمل الصالح

بالمعنى العام شمولياً؛ فهذا يقلل غضب الرّب -جل وعلا- ويضع المرء على الطريق السليم والصحيح الذي نهايته الجنة، المهم صلاح النية والمقصد والإخلاص المتجرد لله من قلب أوجعته المعاصي وأتعبه البعد عن الله.

وتحت هذا العنوان، نركز على الصلاة والنوافل والصدقة وبرّ الوالدين كركائز أساسية في صلاح حال القلوب والعقول والحياة عموماً.

ولسنا في حاجة للتذكير بأهمية أن الطاعة هي الرجولة الحقيقية، وما دونها مراهقة وتيه، والعبد كلما كان مطيعاً لربه متحملاً تكاليفه، ملبياً أوامره، منتهياً عن معاصيه، فهو -يقينا - من الصفوة؛ فما الحياة إلا طاعة لله، واتباع صادق للنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.

2. القراءة

وقد يصاب القارئ بالدهشة من وضع القراءة كعلاج لقسوة القلب، لكن الحقيقة أن القراءة ركيزة أساسية؛ فالتبحر في السيرة قراءة، والمداومة على قراءة القرآن عبادة وتدبر، والبحث في حياة الصالحين والسعي للاقتداء بمنهج السلف، وعليه فالبعد عن القراءة النافعة هو تأزيم للعقل والقلب معاً ، والعكس تماماً يحدث؛ فالفرار إلى القراءة -بالشكل الذي حددنا– هو علاج فعال لقلب يريد النجاة، وعقل يريد التنوير بالمنبع السليم الذي كله خير وبدون اعوجاج.

3. زيارة القبور

إن الإنسانية تظهر في مواطن المرض والموت، وتخفق لها القلوب، وربما يحيا بعض الوقت على هذه الذكرى، والموتى هم قوم كانوا بيننا ورحلوا إلى الله، وكلنا جنائز مؤجلة، فمن لم يمت اليوم مات غداً -ظالماً كان أو مظلوماً، صالحاً أو طالحاً- لكن النهايات والعاقبة تختلف، وعليه فإن زيارة القبور من الأسباب القوية لعلاج قسوة القلوب؛ فقد تدمع العين شوقاً لمن هم تحت التراب، وقد يقف المرء منتبهاً وعقله متوقف عند هذا الذي يسكن القبر، وكم كان فيما مضى وكل هذه الذكريات تلين القلب.

ختاماً

القلوب وقسوتها وأمراضها ليس بالأمر الهين، لكن لكل شيء أساسيات ومعالم، والطريق الوحيد الواضح بلا عوج هو طريق الله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].

والرابح هو من سلك الدرب مستعيناً بربه، صادقاً في مقصده، متجرداً لله، والأكثر ربحاً هو من انشغل بربه وشغل قلبه وحواسه به عز وجلّ، والأكثر وأكثر هو من انشغل بنفسه فقومها وألزمها كتاب الله قائداً لها في دنيا الناس.

والخاسر هو من يظلم نفسه بالبعد والجفاء عن هذا الطريق الذي نهايته نعيم مقيم وحور عين، ويا حبذا صحبة الأنبياء وما عليك أخي إلا أن تختار طريقك.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب وباحث مصري الجنسية، مؤلف عدة كتب فى التربية والتنمية "خرابيش - تربويات غائبة- تنمويات". مهتم بقضية الوعي ونهضة الأمة من خلال التربية.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …