وجودنا في هذه الحياة الدنيا ووظيفة الخلق فيها يوضحه قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ فعبادة الله -جل شأنه– هي الوظيفة الكبرى والمهمة الأسمى، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أهمية العبادة في حياة المسلم، وما لها من آثار في جميع جوانب حياته، والعبادة هي الحبل المتين بينك وبين الله -جل شأنه- فوقوفك بين يدي الكريم لتنوء بأحمالك وأثقالك وتستجمع كل آمالك وآلامك فتضعها بين يدي الله إنما يدل ذلك على معرفة نفسك وما بها من عجز وضعف، فأيقنت أن الله ملاذك فلذت به برغم كل ما فيك لتستجير أو تتقوى به.
غير أنه من الآفات التي تداهم قلوبنا: تعلق أبصارنا في ظواهر الأمور وترقبنا لتحقيق آمالنا وأهدافنا بالسرعة القصوى، فتجد الحماسة وفورتها ترافقنا في كل أعمالنا ومحطات حياتنا، فإذا بادرت بأمر ما استعجلت نتيجته، وإن لم يتحقق ما تصبو إليه في الوقت والزمان الذي قدرته أنت أصابك سهم الفشل والخيبة، فانتكست وتقهقرت أعواماً عديدة للوراء، والعجلة آفة البشر تفسدُ عليهم أمورهم وتهوي بهم في دوامة الانتكاسات، فلا يستطيعون صبراً تحت ضربات الوقت، واقتضت الأقدار أن الانجاز حليف من هو أطول نَفَساً وأشد صبراً .
وخذ مثالا على ذلك: عند حفظ القرآن الكريم، نستعجل الحفظ وقد نسينا قول الله لنبيه عليه أفضل الصلاة: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16].
ينهى الله –سبحانه- نبيه الكريم عن التعجل في حفظ ما يلقيه الوحي عليه من القرآن الكريم، حتى إذا قضينا الشهر والشهرين في الحفظ مللنا الحفظ والمراجعة، وعجبت لأمر المتعجل منا في ذلك فما بالنا نصبر على سنوات طويلة في مقاعد الدراسة من أجل الشهادة الثانوية ثم الجامعية ولا نصبر على سنة أو سنتين لحفظ القرآن، وهب أنك قضيت ولم تستكمل حفظك بعد، ألست تلزم نفسك بعبادة تثاب عليها وتقضي وقتك في المفيد منها فتأتي لتقف يوم الحساب وأنت تقدم معذرتك بين يدي الله.
ألا نتفكر بدورة الأحياء من حولنا فتأمل حال المزارع يعد الأرض ويهيئها ويبذرها منتظراً مواسم الحصاد، ثم انظر موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما جاء أصحابه الكرام وقد بلغ بهم الأذى من قريش مبلغه، بم أجابهم! فعن خَبَّابِ بن الْأَرَتِّ قال: شَكَوْنَا إلى رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا له: "ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعُو اللَّهَ لنا؟" قال: "كان الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرض فَيُجْعَلُ فيه فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ على رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وما يَصُدُّهُ ذلك عن دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ من عَظْمٍ أو عَصَبٍ وما يَصُدُّهُ ذلك عن دِينِهِ، والله لَيُتِمَّنَّ هذا الْأَمْرَ حتى يَسِيرَ الرَّاكِبُ من صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إلا اللَّهَ، أو الذِّئْبَ على غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"، إشارة إلى الصبر حتى تنقضي المدة المقدورة وإلى ذلك الإشارة بقوله في آخر الحديث ولكنكم تستعجلون".
إذا كان هذا موقف النبي الكريم في هذا الابتلاء الذي يعانيه أصحابه ونظر للأمر على أنه استعجال، فكيف إذا أبصرنا -عليه الصلاة والسلام- ونحن لا نستطيع صبراً على ركعة أو على ساعة حفظ أو تأخر استجابة دعوة.
وأسوأ ما وصلنا إليه في حياتنا هو تعاملنا مع العبادات وكأنها طقوس نؤديها في وقت معين، حتى إذا فرغنا منها انسلخنا منها، فما أوليناها قدرها ولا جعلنها أسلوباً ومنهج حياة كما ينبغي للعبودية أن تكون، وهل خلقنا إلا لنكون عبيدا لله؟ فالعبودية لله هي نهج حياتنا وأنفاسنا التي لا تنفك عنا، لا أن نؤديها بجوارحنا لتغيب عنها قلوبنا؛ فالعبودية غاية في حد ذاتها.
أسوأ ما وصلنا إليه في حياتنا هو تعاملنا مع العبادات وكأنها طقوس نؤديها في وقت معين، حتى إذا فرغنا منها انسلخنا منها، فما أوليناها قدرها ولا جعلنها أسلوباً ومنهج حياة كما ينبغي للعبودية أن تكون
ومن العبادات التي يتضاعف تقصيرنا بها وتهميشنا لها عبادة الدعاء، فقد تعجب أن تجد من لم يستمتع في حياته بلحظة يجثو على ركبتيه ليطلب من سيده ويتذلل إليه تذلل العبد المسكين، وقد تجد صنفاً آخر ألجأتهم المصائب للدعاء اضطراراً لا اختياراً، وآخرين -وما أكثرهم- تشوب الشوائب فهمهم للدعاء، فهم يستحضرون في مخيلتهم تحقق واستجابة دعواتهم فور فراغهم منها، حجتهم قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْۚ} [غافر: 60]، فانحصر فهمهم ما لم تتحقق الاستجابة ينقطع المبرر للدعاء.
فالعثرة في فهم هؤلاء أنهم اتخذوا من الدعاء وسيلة لتحقيق غاية لهم، فهو مطيتهم وراحلتهم ليتخطوا ويتجاوزوا من خلاله عارضاً عرض لهم، كحاجة طارئة، أو مصيبة أصابتهم، حتى إذا تجاوزوا ذلك انقطع المبرر لوجود الدعاء، وقد غاب عن فهمهم أن الدعاء غاية لا وسيلة وعبادة قائمة بذاتها، والعبد في كل أموره فقير لسيده محتاج إليه على الدوام والدعاء لهذا العبد هو بمثابة وقوفه باب سيده متذللاً له سواء وجد آثار سؤله أم لم يجد؛ فمقتضى عبوديته أن يلتزم باب مولاه.
ولا يظن أحدٌ أن له حق على الله إذا دعاه وجب أن يجيبه على الصورة والشكل الذي تضمنته دعوته، وإنما دعاؤك اقتضته عبوديتك، فإن لم تكن إجابة دعوتك على مقياس تطلعاتك وأهوائك فلا تيأس، ويكفيك شرف المثول بين يدي الله داعياً مستغيثاً مستجيراً، وقد كانت الحكمة السادسة لابن عطاء حول هذا المعنى فيقول: "لا يكن أمد تأخر العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجباً ليأسك، فهو ضمن لك الاستجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد".
لا يظن أحدٌ أن له حق على الله إذا دعاه وجب أن يجيبه على الصورة والشكل الذي تضمنته دعوته، وإنما دعاؤك اقتضته عبوديتك، فإن لم تكن إجابة دعوتك على مقياس تطلعاتك وأهوائك فلا تيأس، ويكفيك شرف المثول بين يدي الله داعياً مستغيثاً مستجيراً
فلا تستعجل على الله ولا تشترط كيفية الإجابة، فالوقت والكيفية والهيأة الله مالكها كما أمرك بين يديه إذا قال للشيء كن فيكون، فأنت لست مطالباً بغير العمل وأمر الجزاء ليس في نطاق مسؤولياتك، وما شرفك وعزك إلا في عبوديتك كما تقتضيه العبودية لا كما تروم نفسك.
ولكي يُستجاب دعاؤك لا بد أن يتحقق فيه شرطان ذكرهما البوطي في شرح الحكم العطائية:
أولهما/ يقظة القلب والمشاعر، فلا بد من يقظة وتفاعل من القلب والمشاعر مع الطلب اللفظي؛ لكي لا يكون الدعاء مجرد حركة آلية يعتاد اللسان فعلها مع رفع الكفين.
ثانيهما/ أن يقدم الإنسان بين يدي مولاه توبة صادقة عن تلك المعاصي التي اقترفها في حق الله جل شأنه.
وبعد أخذ العبد الفقير بالأسباب يلزم باب مولاه دون أن يستعجل الإجابة، ولا يتذمر من استبطائها امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل"، قالوا: يا رسول الله، كيف يستعجل؟ قال: "يقول دعوت ربي فلم يستجب لي"، وهو ما يحذرنا منه ابن عطاء: "لا يكن أمد تأخر العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجباً ليأسك"، ومن ثم إياك أن يتزعزع يقينك أو يعتريك شك حول استجابة الله -عز وجل- لدعائك واستحضر قول نبيك -صلى الله عليه وسلم- واشدد به على قلبك: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها مأثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه إحدى ثلاث: إما أن يستجيب له دعوته، أو يصرف عنه من السوء مثلها، أو يدخر له من الأجر مثلها".
نعم، فما كانت دعواتك ضرباً من العبث ولا ذهبت أدراج الرياح فربك كريم ولهو أكرم من أن يرد يد السائل إذا سأله ودعاه، فقد ضمن الله لك الاستجابة، لكنها ليست بالضرورة أن تكون بالحرفية التي طلبت ولا بالهيئة التي أردت وفق الزمان الذي تحدده أنت ، ولهذا يشير ابن عطاء في الشق الثاني من حكمته: "فهو ضمن لك الاستجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد".
وعلى هذه المعاني يتربى المسلم وتكون الحالة السلوكية له على مدار حياته أن يلتزم الافتقار والانكسار بين يدي سيده ومولاه، لا ينشغل بالأسباب والنتائج عن مُسببها، فلا سرعة الاستجابة تغنيه عن ربه ولا تأخرها يؤثر على يقينه وثقته بكرم الله وإحسانه، ويظل العبد يرفل في نعمة العبودية لله وهو يتقلب بين الدعاء وانتظار الاستجابة دونما يأس أو ضجر؛ لأنه موقن بقول نبيه الأكرم: "أفضل العبادة انتظار الفرج" كيقينه –تماماً- بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء هو العبادة".