من بين أبرز أوجه القصور في الدراسات والكتابات المتعلقة بفلسفة الإسلام (أي تلك التي تنظر في جوهره، وفي جوهر تعاليمه، ومحاولة الوصول إلى بعض حكمة اللهِ تعالى مما أمرنا به من أحكام، ووضعه من قوانين في خَلْقِه) هي تلك التي تتناول الجوانب المادية في هذا الدين، وعلى وجه الخصوص، الجوانب المادية في صَنْعَة الإنسان، وفي صَنْعة هذا الكون، وكيف ينظر لها التصور الإسلامي.
ويعود ذلك إلى مشكلة رئيسة يعاني منها الفضاء الإسلامي منذ ظهور هذا الدين وحتى الآن، وهي هيمنة الأفكار المحلية والعادات والتقاليد على منهجية تطبيق الإسلام لدى الكثير من المجتمعات المسلمة، وهو ما نجد آثاره بشكل واضح الآن في مجتمعاتنا العربية والمسلمة.
وآفة ذلك أنه ينسب إلى الإسلام أفكاراً وممارسات ليست منه، سواء في المجال السياسي والمجال المجتمعي، والمجال السلوكي والأخلاقي.
ويعود ذلك في جذره إلى طبيعة المجتمعات التي ظهر فيها الإسلام في بادئ الأمر وانتشر فيها بعد ذلك؛ لأن مجتمعات البادية والمجتمعات المشرقية تطغى عليها الجوانب النفسية والروحية، والطابع المحافِظ غالباً.
وهذا موجود في أمم كبرى -على أكبر قدر من الانفتاح على العالم الآن- مثل الهند واليابان والصين؛ فقد ظلت هذه الأمم لقرون طويلة خلف أسوار خصوصياتها لا تخرج عنها.
وهذا في الواقع يطرح قضية مهمة -ما فتئنا نتكلم عنها- وهي قضية تنقية الإسلام مما لحق به من شوائب ثقافات وفلسفات وطبائع المجتمعات التي دخل فيها؛ مع التمييز هنا ما بين ذلك، وبين نقطة عمومية أحكام الإسلام وتصوراته؛ لكي يكون صالحاً لكل زمان ومكان، وبالتالي تزداد قابليته لاستيعاب ثقافات وخصوصيات الشعوب، ولا يتضاد معها.
الفكرة المهمّة ألا نقول إن هذه العادات والتقاليد، وهذه التصورات هي من الإسلام، بل نقول إنها لا تتعارض معه وحسب، وبالتالي، فلا ضير من الاحتفاظ بها، والإسلام يشجِّع على ذلك؛ لتحقيق سُنَّة التنوُّع وسُنَّة التكامل التي جاء بها القرآن الكريم، فمن البديهي أنه من دون ذلك لن نكون شعوباً وقبائل مختلفة الألسن والألوان، كما جاء في سُورَتي "الحُجُرات" و"الرُّوم".
المهم أننا أمام مشكلة كبرى تعترض جهود الدعوة وانسياح الإسلام في المجتمعات الغربية على وجه الخصوص؛ تلك المجتمعات التي تؤمن بقضية العقل، وتضع المادة في كل تصوراتها، بدءاً من حياتها اليومية، وحتى الملاحظة والتجريب العلميَّيْن اللذَيْن هما أساس النهضة الحضارية هناك.
والحضارة الغربية توصف عادةً بأنها "حضارة مادية"، وبالتالي، فإننا عندما نقدم لهم ديناً يبدو –كما يقدمه بعض أتباعه ومجتمعاته ولا نقول إن ذلك في الإسلام طبعاً– نقول "يبدو" أنه دينٌ مقتصر على الجوانب الروحية، والنواحي المرتبطة بالأمور الغيبية غير المنظورة أو المحسوسة، وغير القابلة للقياس، فإننا لن نحظى بالنتائج المطلوبة.
عندما نقدم لأفراد الحضارة الغربية ديناً "يبدو" أنه دينٌ مقتصر على الجوانب الروحية، والنواحي المرتبطة بالأمور الغيبية غير المنظورة أو المحسوسة، وغير القابلة للقياس، فإننا لن نحظى بالنتائج المطلوبة
وفي حقيقة الأمر، فإننا لسنا بحاجة إلى إثبات الطابع المادي في الإسلام؛ فالحيِّز الذي اختاره اللهُ تعالى لخلقه، هو حيُّز مادي يتكامل مع الجوانب الروحية والمعنوية في تحقيق غاية الخلق، وهي إقامة عقيدة التوحيد.
فالكون الذي يعيش فيه الإنسان -وكافة المخلوقات الأخرى التي تُقام فيها ومن خلالها سُنَن أساسية مثل التسخير واستعمار الأرض– يعدّ مادة، وغالبية المخلوقات تعدّ مادة فقط، مثل الجمادات كافة.
فقد كان اللهُ تعالى قادراً –بطلاقة قدرته– أن يؤسس لنمط آخر -من الحياة أو الوجود- مختلف تماماً بما لا يمكننا أن نتصوَّره، عمَّا نراه في الدنيا بالمفهوم الإسلام الواسع للدنيا، والذي يشمل الكون والخلق بشكل عام، والسُّنَن المختلفة، وسعي الإنسان وسائر المخلوقات فيها.
لدينا في الشريعة الإسلامية أحكامٌ تنظم المعاملات المالية، وتنظِّم أحكام الزروع والثمار والذهب والمعادن النفيسة، ولدينا ما ينظم كيفية إشباع الإنسان لاحتياجاته البدنية، في الطعام والشراب والجنس، وكذلك في الطهارة والتعامل مع دورات المياه.
وبالعودة إلى وثائق العصور التي وصلت فيها الحضارة الإسلامية إلى ذروتها، وكانت سيدة العالم في مختلف صور الحضارة والعمران، فإنها تثبت أن ما نحن عليه الآن في تعاملنا مع الإسلام، ومع الدنيا ومتطلباتها، إنما هو خطأ.
فعلماء الإسلام درسوا الكون المادي بالكامل، وكانت لهم إسهاماتهم في كل العلوم المرتبطة بالمادة والبحث العلمي التجريبي بمفهومه الحديث، وبخلاف ما فعلته الكنيسة الكاثوليكية -مثلاً- مع جاليليو في بحوثه في مجال الفلك والطب؛ فإن علماء المسلمين –وغالبيتهم كانوا فقهاء وقضاة (أي على أكبر قدر من الإلمام بالشريعة الإسلامية وبالتصور الإسلامي للأمور والأشياء)- لم يتحرَّجوا من البحث في علوم ذات حساسية كبرى في الجانب الديني منها، مثل الطب، بما في ذلك علوم التشريح.
وعلماء الإسلام في فترات السيادة الحضارية، كانوا أصحاب عقولٍ شديدة الانفتاح والمرونة والفهم في التعامل مع النَّصِّ القرآني؛ فهم –ومنهم الإدريسي– الذين أثبتوا كروية الأرض، ولم يقفوا وقوفاً جامداً جاهلاً أمام عبارة: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} التي وردت في القرآن الكريم مرتَيْن في سورتَيْ [الحجر: 19] و [ق: 7] أو أمام آية: {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 20]، ولم يجدوا بينها وبين الآية التي يقول فيها رب العزة سبحانه: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فالنسبية هنا كانت حاضرة لديهم؛ لأن مساحات المد والبسط المقصودة في هذه الآيات، مقصود بها المسافات والمساحات وفق منظور الإنسان العادي إليها؛ فنحن عندما نسير على الأرض نتصور أنها مسطحة؛ بسبب الفارق الكبير بين حجم الأرض وحجم الإنسان وأية وسيلة سير يستعملها.
كذلك المسلمون لهم إسهاماتهم المعتبرة في أعظم فنون العمارة الموجودة على وجه الأرض، حيث تعكس إتقاناً كاملاً لقواعد العلوم المادية مثل الهندسة والرياضيات البحتة والتطبيقية والفيزياء والكيمياء .
وكلها علوم لا يمكن بحال تطبيقها وتطويعها إلا لو بوجود استيعاب وفهم كاملَيْن لها، وهو ما لن يكون من دون قناعة راسخة بها، بل وبأن إتقانها من صميم الدين، وليس فقط أنها لا تتعارض معه.
والآيات التي تكلمت في القرآن الكريم عن خلق الإنسان والكون -سواء المخلوقات الحية أو الجمادات- تكشف أعماقاً كبيرة في التصور الإسلامي المتوازن بين المادي والمعنوي.
فالآيات التي تتكلم عن خلق الإنسان، تصفه وتصف مراحل عمره المختلفة طبيّاً بشكل واضح، منذ أن يبدأ نطفةً، وحتى يموت ويبلى جسده.
وكذلك الآيات التي تتناول الكون ونقطة التوازن بين مكوناته المختلفة، نجد في القرآن الكريم إشارات واضحة عن القوى المادية التي تحفظ هذا التوازن، واللهُ تعالى قادر على أن تحقيق التوازن بدون أي اعتبار مادي، مثل: قوى الجذب والطرد المركزية، وأشكال الطاقة المغناطيسية والنووية والحرارية المختلفة التي بينها تناغم دقيق لا يمكن بحال أن يكون محكوماً لقوانين الصدفة والتلقائية، وإنما هو من تدبير خالق حكيم عليم، وخالق واحد لا مراء في ذلك.
وبالتالي، فإننا كما نقف على النواحي المتعلقة بالأمور المعنوية في عقيدتنا، وفي أخلاقياتنا وسلوكياتنا، فإننا نقف أمام بنيان متكامل، يعترف بالمعنى العام لكلمة المادة، وبدورها في صياغة طبيعة الكون وإدارة شؤون الخلق والدنيا بالكامل، وتوجيه صيروراتها.
في حقيقة الأمر، نحن أمام مجال واسع للكتابة والبحث -وهو من أهم ما يمكن لخدمة جهود الدعوة خارج فضائنا الإسلامي- ولكنه متراجع؛ لعوامل عديدة، منها ما ذكرنا، ومنها ما يتعلق بالمركزية الكبرى لقضايا العقيدة في الإسلام في كتابات المفكرين والفقهاء والمفسِّرين، وما يرتبط بها في صدد العبادات وأحكامها.
وبالرغم من الأهمية الكبرى لهذه الأمور، لكن، وكما أن الإسلام دينٌ متوازن ودقيق في المزج بين هذه الأمور جميعاً، فإننا –وهذا ما يفرضه المنطق العقلي البسيط– يجب أن تتحلى دراساتنا وحديثنا عن الإسلام بذات التوازن؛ الشكل الذي يبرز ثراء وتنوع وجمال هذا الدين.