بدأت النسخة العربية من قناة "ناشيونال جيوجرافيك" هذه الأيام، ببث سلسلة وثائقية جديدة بعنوان: "تفعيل.. مبادرة المواطن العالمي" وتقوم المبادرة على جهود عدد من رموز الفن والمجتمع والثقافة والسياسة -المؤمنين بالهوية الإنسانية الجامعة للبشر- في سبيل معالجة مشكلات مركزية قائمة في الكثير من المجتمعات الإنسانية.
وتشمل المبادرة إطلاق مبادرات فرعية في مجال التنمية المحلية ومكافحة الفقر وتمكين المرأة وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان، وغير ذلك مما يتصل بدرجة قرابة كبيرة مع خطط الأمم المتحدة للألفية الجديدة، والتي بدأ طرحُها وتسْويْقُها عالميّاً في التسعينيات الماضية بعد انتهاء الحرب الباردة فعليّاً بتفكك الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الشرقية.
ساهم ذلك في رفع الكثير من القيود التي كانت مفروضة على مشروعات ذات طابع إنساني عالمي، بعد زوال الستار الحديدي الذي كانت تفرضه موسكو على مناطق نفوذها المباشرة في أوروبا الشرقية والوسطى، وفي آسيا الوسطى، وغير المباشرة في الشرق الأوسط وأمريكا الوسطى واللاتينية.
وفي حقيقة الأمر، فإن هذه النوعية من المبادرات هي من أهم ما يكون - ولو ارتبط بعضها بدفعٍ خفي من جانب بعض الحكومات وأجهزة المخابرات لاختراق بعض المجتمعات، ولا نقول بأن هذا موجود في حالة مبادرة المواطن العالمي هنا – لأن هذه النوعية من المبادرات تعمل على تعضيد عدد من الأمور شديدة الأهمية.
أول وأهم هذه الأمور/ تحسين قدرة المجتمعات والحكومات على فهم وتطبيق أهم أركان الحكم الرشيد "Good governance"، مثل فهم جوهر حقوق الإنسان، وفي القلب منه تمكين الفئات المهمَّشة، ولا سيما المرأة وتحسين مجال حقوق الطفل.
تُضاف إلى ذلك مجموعة من الأمور التي تصب في صالح أهداف أساسية للحكومات والأنظمة الحاكمة، غابت في زحام الفساد والاستبداد وصراعات السياسة والحكم (وهي التنمية) وفي القلب منها مكافحة الفقر.
كما أن هذه المبادرات تسهم في رعاية نشاط مهم للأمم المتحدة، وكان في صُلب أجندتها بعد الحرب الباردة، وهو منح مكانة قانونية وسياسية للمجتمع المدني، من خلال منظومة من الشراكات والبرامج بين الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وبين مؤسسات وطنية تعمل في داخل دولها، أو ذات طابع إقليمي ودولي.
ومن بين أهم مبادرات المنظمة الدولية في هذا المجال، أن أسست ما يُعرَف بوحدة المجتمع المدني، بعد أن دمجت دائرة الاتصال غير الحكومي السابقة مع إدارة التواصل العالمي، وكذلك صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية، والنظام المتكامل لمنظمات المجتمع المدني (iCSO).
وأخذت هذه الأمور قوة دفع مهمة من التطور الكبير الذي طرأ على وسائل التواصل والاتصال، ومن بينها وسائل الإعلام الإلكتروني، ومنصات التواصل الاجتماعي، والتي عملت على تحقيق أحد أبرز نواتج العصر، وهو تشبيك المجتمعات الإنسانية في أي مجال.
وبالتالي صار الصوت الواحد للمستضعفين بمليار صوت، شرط تفعيله وإيصاله من خلال هذه المنظومة من المسارات: شخصيات عامة، مؤسسات ومنظمات وطنية وإقليمية ودولية، ومنصات إعلامية متنوعة... إلخ.
ويعود جذر مسمَّى هذه المبادرة إلى مقال مهم - لقي صدىً واسعاً في حينه - للمفكر الإنجليزي أوليفر جولد سميث - الذي عاش في القرن الثامن عشر الميلادي، وصدر بعد ذلك - بعنوان "المواطن العالمي"، حاز شهرة واسعة في القرون التالية، وكان أشبه بمدرسة فلسفية مهمة واجهت الفاشيات القومية ودعوات الشعبوية وانكفاء الأمم والمجتمعات حول الذات.
وبطبيعة الحال لاقت هذه النظرية (التي وضعها جولد سميث) دعماً من تيارات فكرية وأيديولوجيات، مثل المدارس الاشتراكية وحركات الأممية الشيوعية التي أسست لنفسها كيانات قريبة من هذه الفكرة، مثل "الكومنترن" أو "الشيوعية الدولية"، والتي ضمت الأحزاب الشيوعية في العالم.
وكانت هذه تستند إلى جذر مهم من أفكار جولد سميث، يبدو أنه كان مصدر إلهامٍ لكارل ماركس وفريدريك إنجلز، والآباء الأوائل للشيوعية العلمية، وهي رفض فكرة وجود الدولة، والدعوة إلى مجتمع إنساني عالمي.
وفي الأصل فإن غالب هذه الأفكار أصَّلتها الفلسفات اليونانية القديمة، فأفلاطون – على سبيل المثال – هو الأب الروحي للأفكار المماثلة: الشيوعية والمواطنة العالمية، وما إلى ذلك.
في المقابل - وبطبيعة الحال مثل أية فكرة أو عقيدة - لاقت الكثير من المعارضة من تيارات ومدارس أخرى، ولا سيما التيارات الشوفينية أو القومية المتعصبة "Chauvinism"، ولا سيما التطبيق الإيطالي لها، "الفاشية"، والتطبيق الألماني لها، "النازية".
وفي عصرنا الراهن، تمثل هذه المدرسة، والمبادرات التي ترتبط بها، مجالاً مهمّاً للعولمة "Globalization"، والتي تمثل أحد أهم حلفاء الغرب الليبرالي في فرض هيمنته الحضارية، تحت مسميات أصيلة يطالب بها فلاسفة العالم عبر التاريخ، مثل "الأخوة الإنسانية" و"القرية العالمية".
المهم، أن هذه النوعية من المبادرات – برغم اتساع نطاق الاهتمام العالمي بها - لا تلقى مشاركة إسلامية حقيقية، ولهذا أسبابه التي في صُلبها خاطئ، وكذلك تقود إلى نقاط سلبية تكرس رسالة خصوم الأمة عنها، ولا تعالجها.
هذه النوعية من المبادرات – برغم اتساع نطاق الاهتمام العالمي بها - لا تلقى مشاركة إسلامية حقيقية، ولهذا أسبابه التي في صُلبها خاطئ، وكذلك تقود إلى نقاط سلبية تكرس رسالة خصوم الأمة عنها، ولا تعالجها
ولكن قبل الاستطراد في هذه النقطة، ينبغي الحديث عن أن هناك مبادرات إغاثية واسعة ترعاها حكومات دول إسلامية، مثل المملكة العربية السعودية وتركيا وباكستان، ومؤسسات إسلامية مهمة، مثل رابطة العالم الإسلامي والندوة العالمية للشباب الإسلامي والأزهر الشريف.
كما توجد شخصيات ومؤسسات مسلمة في الغرب، تؤدي ذات الأدوار والوظائف، مثل: منظمة "الإغاثة الإسلامية" "Islamic Relief"، ومقرُّها بريطانيا.
إلا أنه ثمَّة مشكلة قائمة في هذه المناشط، وتَمَسُّ صلب رسالة هذا الموضوع، وهي أنها غالب الحال ما تكون استجابة لاعتبارات دينية، إما ضمن جهود دعوية، أو في أوساط مجتمعات مسلمة فقيرة.
بطبيعة الحال، هذا الأمر طيب وينبغي تشجيعه، وتؤديه - منذ قرون طويلة - هيئات ومتطوعون من ديانات أخرى؛ لأسباب تتعلق بأنشطة دعوية مماثلة لدياناتهم، مثل الإرساليات التبشيرية التابعة للكنيسة الكاثوليكية والكنائس الإنجيلية على وجه الخصوص.
إلا أنه تبقى حقيقتان: الأولى/ أن الجهد الإسلامي في هذه الاتجاهات لا ينخرط في مثل هذه المبادرات التي تخرج عن سياق أي نشاط ديني أو دعوي، والثانية/ أن المؤسسات الأخرى -التابعة لمجموعات دينية أخرى، وتمارس أنشطة دعوية لعقائدها- لا تستنكف عن الانخراط في مثل هذه الأنشطة.
ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة في تعاون الإرساليات التبشيرية مع مناشط الخدمات الإغاثية وخدمات الطوارئ التي تقدمها مؤسسات الأمم المتحدة، بل إن الصليب الأحمر الدولي هو في الأساس بدأ بجهود قريبة من الكنيسة الكاثوليكية، وتطور حتى صار نشاطاً عالميّاً.
هذا لا نجده واضحاً في نشاط حكوماتنا ومؤسساتنا ورموزنا العامة، ومبادرة مثل مبادرة المواطن العالمي - على أهميتها، واتصالها بمؤسسات دولية كبرى ورموز عالميين - تخلو تقريباً من أية مشاركة إسلامية.
ينقل ذلك – بكل تأكيد – صورة سلبية عن المجتمعات المسلمة وطبيعة الإسلام والمسلمين، وخصوصاً مما يُقال كثيراً عن وجود نظرة استعلائية بالدين، وتكرِّس بالباطل ارتباط بعض الظواهر السلبية المتوارثة من عادات وتقاليد المجتمعات العربية والإسلامية من قبل ظهور الإسلام، بالدين الحنيف.
وهذا يخالف واقع ما دعا إليه القرآن الكريم، يبرز كتاب اللهِ تعالى – وهو مصدرنا الرئيس للتشريع وبناء تصوراتنا عن أنفسنا والآخرين والإنسانية بأكملها – الكثير من صور الانفتاح، ولا يمنع أي تواصل في الخير والبناء مع غير المسلمين.
فالمعاداة والحروب والصدامات الحضارية في القرآن الكريم ترتبط برد العدوان والدفاع عن بلاد الإسلام والمسلمين فحسب، ولكن في حال ما لم يبادرنا أحدٌ بالعداء أو الحرب فإن التعاون والتكامل هو أساس العلاقات بيننا وبين الأمم الأخرى ، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].وكذلك منطقياً، وبعيداً عن النص القرآني الواضح، لا يمكن بحال القول بعكس ذلك؛ لأن هذا هو ما تفرضه الفطرة الإنسانية السليمة؛ لأن الاجتماع الإنساني والتكامل الإنساني، والتعاون بين الناس كلها من أمور الفطرة الصحيحة، وما نزل الإسلام ولا أي حكم من أحكامه أو قاعدة من قواعده مخالِفة للفطرة؛ لأن الدين والقرآن الكريم، من لدن الخالق نفسه الذي خلق الإنسان وقواعد الاجتماع والعمران، وإلا أثبتنا نحن – والعياذ بالله – كمسلمين ما يتقوَّله أعداء الدين عن الإسلام.
وهذا ناجم عن الكثير من الأسباب، من بينها الفهم الخاطئ لآيات القرآن الكريم التي تتكلم عن استعلاء المؤمن بإيمانه، واجتزائها من سياقها، وتعميم الحكم على كل المواقف، بينما هذه الآيات نزلت في المواقف التي تتعلق بالتحديات والصراعات التي تُفرَض على أمة الإسلام، أو تدعو المسلمين إلى التعامل مع الأمم الأخرى وفق منطق النِّد للنِّد، وليس منطق التابع والمتبوع، وليس أبداً معناها أن نعتزل الناس بحجة أننا مسلمين وهم على غير دين اللهِ تعالى.
وهذا –كما قلنا– يخالف قواعد الخلق الرباني، فأية أمة – بما فيها أقوى الأمم التي ظهرت عبر التاريخ – لم تستطع الاستغناء عن الأمم الأخرى، والميزان التجاري للولايات المتحدة - أقوى قوة في عالمنا المعاصر - يثبت ذلك؛ فلم ولن تُوجد بعد الدولة أو الأمة التي تستطيع الاكتفاء ذاتيّاً من كل احتياجاتها.
في المقابل، لا نرى أن هناك جهداً كبيراً - من جانبنا كمسلمين – لفعل ذلك؛ فنظرية الاستغناء هذه على استحالتها، وأبسط علامات هذا، هي الحالة المتردية للتعليم، والواقع المزري لميزانيات البحث العلمي لدينا، والعجز الدائم والضخم للميزان التجاري للدول العربية والمسلمة، مما يقول بأننا في هذه المرحلة من تاريخنا، أمة استهلاك، لا أمة خلق وإبداع.
وهذا يظلم الحضارة الإسلامية، التي كانت هي أول حضارة أرست مبدأ النقل والترجمة والتعاون في المجالات الثقافية المختلفة، والتي هي أرقى صور النشاط الحضاري للإنسان، وكانت النبراس الذي قاد أوروبا لعصور التنوير.
وفي الأخير، فإنه من السهولة بمكان – في ظل تطورات العصر وآلياته – أن يصل المسلمون إلى المعادلة السوية الصحيحة لانخراط آمن في تفاعيل العولمة - كما ذكرنا في مواضع سابقة للحديث - تعمل (هذه المعادلة) على تحقيق الاستفادة وسُنَن العمران، والحفاظ على الخصوصية في الوقت ذاته، كما تفعل الهند والصين على سبيل المثال.
إن هذه القضية تتصل بإشكالية أكبر متعددة الأبعاد، وهي التأويل والفهم القاصر للقرآن الكريم وقواعد الشريعة، والمزج الإجرامي بين أحكام الشريعة وقواعدها وبين عادات وتقاليد بالية، نُسِبَت باطلاً للدين، والوقوف عند المتون دون السعي إلى تطويرها ووضع متونٍ جديدة تلائم العصر في فهمنا للقرآن الكريم وسُنَّة الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.