لا شك أن أبناءنا هم مقلة عيوننا وفلذة الأكباد والفؤاد، وحقيق على كل أب وأم أن يضحي بوقته وجهده وأن يجاهد في تربية أبنائه ويستثمر فيهم بشكل يرضى الله عنه ويبارك في ذريته، المهم أن يسلك الطريق الصحيح في غرس القيم التي أمر بها الدين وعمل على تأسيسها كواقع حقيقي يكون ذخراً للوالدين في الدنيا ودعوة صالحة وهم في القبور.
ولما كان الصدق من أجل القيم وأعظمها فهي صفة النبي الأكرم -صلى الله عليه وسلم- قبل الإسلام وبعده فقد كانوا ينادونه بالصادق الأمين صلوات ربي وسلامه عليه؛ فالصدق شجرة كطوق نجاة للجميع ومنبتها النشأة الصالحة، ولو أحسن الأبوان غرس شجرة الصدق وإنباتها في نفوس الأولاد لاقتلعت كل خلق سيئ وأزالت كل عفن وعطل ، ولا عجب؛ فالصدق من الفضائل التي لها ما بعدها من جميل الأخلاق كما ورد في الحديث: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة"، إذن فالطريق نهايته سعيدة ومبشرة.
وعليه ونحن -انطلاقاً من حرصنا على مستقبل أولادنا وحباً فيهم وفي أنفسنا؛ لأن المردود على الجميع، فالصالحون يدعون لآبائهم، وهكذا...- في دائرة متشابكة بود وحرص على الحاضر والمستقبل وعليه فإن الأمر يكمن في عدة أمور:
1. فهم الوالدين (الذكاء الأبوي)
إن الوالدين هم الأصل والأساس في كل خير، والأطفال ينظرون لأفعالهما ويركزون مع كلامهما، فضلاً عن تقليدهما في كثير من الأفعال، وهو أمر طبيعي موروث ولا شيء فيه، وعليه فالوالدان عليهما أن يتفقا معا على وسائل بسيطة لغرس القيمة "كالقصص" فهذا الأمر مشوق وجذاب للأطفال، المهم السلاسة في الحوار والبساطة في الشرح، مع أهمية أن يستغل الوالدان كل وقت متاح للجلوس مع الأبناء والاستماع إليهم، وتأليف بعض المواقف من الحياة وعرضها عليهم في إطار تثبيت الصدق كطوق نجاة للمرء في الدارين، وحباً لهذا الطفل المتطلع لمستقبل ممتع وجميل.
على الوالدين أن يستغلا كل وقت متاح للجلوس مع الأبناء والاستماع إليهم، وتأليف بعض المواقف من الحياة وعرضها عليهم في إطار تثبيت الصدق كطوق نجاة للمرء في الدارين
2. دور المدرسة (المحضن الثاني)
يمكث الأطفال ما يقارب الست ساعات في المدرسة، وهي فرصة ذهبية لغرس كل فضيلة وإيجابية والتقليل من الأشياء الأخرى السلبية وعليه فإن دور المدرسة كمحضن تعليمي شديد الخطورة، والأخطر منه فهماً وعملاً هو دور المدرس أو المربية التي تعلم وتربي؛ فهو دور لو تعلمون خطير، فالتأسيس ليس من البيت فقط بل بتكاتف الجميع، والبيت جزء منه والمدرسة مكملة لدور البيت، أو إن شئت فقل تضيف إليه، فالهدف واحد وهو إخراج جيل صادق يدرك عظمة دينه ورسالته يستمد من المنهج المدرسي أعظم تجليات الصدق والقيم النبيلة ومن معلمه كل خير، وكل خلق جميل بالرفق واللين بعيداً عن الترهيب والشدة؛ كي لا يتحول الكذب لواقع تفادياً للعقاب كذلك على إدارة الكيانات التعليمية بشمولها أن تهتم بتكوين البناء الأخلاقي الذي يضيف للجميع فعندها يربح الجميع وتقدم المدرسة نموذج أخلاقي يفخر به الوطن.
3. دور المجتمع (التكاتف)
إن الصدق رسالة لو تبناها الجميع لتحولت أحوالنا ولقلت الجريمة في مجتمعاتنا ولساد الحب والتسامح حياتنا واختفت كل خطابات الكراهية والتحريض والنفور وأن المجتمع كتجمع بشري كبير مسؤول عن ذلك بشكل كبير.
وقناعتي أن ضرب الأمثلة الصادقة في الصدق وإبرازها وتعزيز وجودها في المجتمع من أهم طرائق تثبيت هذا الخلق، فاختيار شخصيات أجلاء ونشر سيرتهم الذاتية بين الناس كمثال للصدق من أهم واجبات المجتمع وقياسا في كل مشيخة أو مدينة وهكذا.
وعليه فالواجب على كل أب وأم وأخت وأخ، ومدير وموظف، ورياضي وطيار ومعلم وصاحب مهنة وسائق، أن يؤدوا أدوارهم أولاً مع أنفسهم، ثم مع أهليهم، ثم مع محيطهم العائلي والتواصلي، سيتغير الحال ليصبح مثالياً، بدون وجود الكراهية أو العنف أو سوء الخلق، بل حياة يسودها الصدق ومكارم الأخلاق.
4. دور الدولة (البناء)
وهذا أخطر وأهم دور في المنظومة التي ننشدها؛ لأن النظم الحاكمة لو تبنت هذا الخلق أو بشكل موسع لو تبنت وخدمت على الفضائل بشمولها في جهازها الإداري مثلا فإن الوضع سيتحول بشكل كبير، وعندها تختفي الرشاوى في المجتمع، ويتحول الجميع للسعي لرضا الله - عز وجل - يرجو رحمته ويخشى عذابه، ولو تبنته كضرورة حتمية في البناء ستقل نسب الجرائم والفساد التي أصبحت مرعبة، ولأصبح الأولاد يعيشون حياة حقيقية بل ويتوارثون الطيب من الصفات وفي قلبها الصدق من الآباء والأمهات.
كذلك الدولة تستطيع دعم انتشار وغرس الصدق بوسائل شتى، فيكفي توجيه الإعلام لخدمة هذا الأمر، عندها سنجد ثورة في البرامج والدراما ترسخ الصدق بعيداً عن الفساد والإفساد الذي يستهدف الأجيال على مدار الساعة، المهم أن يكون ذلك وفق منظومة محاربة الكذب والإشاعات وتضليل الرأي العام وترويج سياسة الطعن والتشويه لكل من يخالف الهوى العام، وقد يقول البعض هذا حلم فنقول لا بد أن نحلم؛ فأحلام اليوم هي حقائق الغد.
5. دور الدعاة (الوعي)
إن الداعية إلى الله هو مبعوث النبي - صلى الله عليه وسلم - ودوره رسالي وتوعوي شديد، فلو أحسنوا تقديرهم لأنفسهم في المقام الأول، ولو أخلصوا قلوبهم وعقولهم لله لفتح الله لهم كل القلوب والعقول، والأهم في هذا الدور أن يكون الداعية صادق القول والفعل والسلوك بعيداً عن تزييف العقول وتمجيد الطغاة والميل إليهم، خصوصاً أن الله حذر الجميع - وفي القلب منهم - الدعاة إليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2].
إن الداعية إلى الله هو مبعوث النبي - صلى الله عليه وسلم - ودوره رسالي وتوعوي شديد، فلو أحسنوا تقديرهم لأنفسهم في المقام الأول، ولو أخلصوا قلوبهم وعقولهم لله لفتح الله لهم كل القلوب والعقول
وعليه فإن توجيه الداعية خطابه -ولو جزئيا - للآباء والأمهات؛ ليعلموا ويربوا أولادهم على الصدق ومعالي الأخلاق ومكارمها هو من صميم الرسالة الدعوية، المهم أن يكون لديهم صلاحيات بعيداً عن القيود والخطب المكتوبة التي تسلخ الخطيب من دوره وتهمش رسالته وتجعله جسداً لا روح فيه.
ختاماً
مكارم الأخلاق من أصل ديننا والصدق عنوان لكل صاحب رسالة، وعاقبة الأمر نهاية المطاف مبشرة وملبية لكل من يريد لنفسه مستقبلاً جميلاً بلا فزع أو خوف؛ فالصادقون هم صفوة الصفوة وأهل النقاء، اللهم ارزقنا الصدق في الدنيا والآخرة.