وماذا خسر العالم حقاً بانحطاط المسلمين؟!

الرئيسية » خواطر تربوية » وماذا خسر العالم حقاً بانحطاط المسلمين؟!
four-questions

للأستاذ أبو الحسن الندوي كتاب بهذا العنوان (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين).

قرأت هذا الكتاب منذ سنوات عدة تزيد على الخمسة عشر عاما، وهو من الكتب التي تتردد على الألسنة والأسماع كثيرا، فأحببت أن أقرأه مرة أخرى، غير أني لم أجده في مكتبتي، فقد ضاع منها الكثير مما استعاره الأصدقاء ولم يرجعوه، وضاع منها الكثير نقلا من بيت لثانٍ لثالثٍ، وضاع منها الكثير حرقاً لئلا تقع عليه أنظار الغاشمين، الذين يقتحمون بيوت الآمنين ليلاً ونهاراً، باحثين عن كل رأي يدعو للحرية، أو للمرجعية الإسلامية، التي لا تخشى أنظمة الظلم والغشم إلا منهما.

قلت لمّا لم أجد الكتاب لأقرأه مرة أخرى: أكتب حول الموضوع، ذاكراً رأيي لا رأي الأستاذ الندوي، وقد أنسيته لطول الزمان منذ قراءة الكتاب كما ذكرت.

وأول ما يلفت الانتباه في العنوان، أن الشيخ الندوي استخدم تعبيره (انحطاط المسلمين). وهو تعبير يثير الصدمة أولا، لأن لفظة انحطاط لفظة قاسية، وكثيرا ما تستخدم في عاميتنا الفصيحة للتعبير عن قلة الأخلاق والذوق.

إلا أن اللفظة معبرة في الحقيقة أفضل تعبير عن المسألة، فهي في القاموس: مصدر انحط، وهي الانحدار والنزول من علٍ.

ومعروف بقراءة التاريخ أن المسلمين كانوا في أعلى مكانة ومنزلة، عندما كانوا متمسكين بدينهم، مدافعين عنه، مجاهدين في سبيله.

وقد سادوا العالم بذلك لألف عام، ثم حدث الانحطاط والانحدار عندما تركوا دينهم، وبحثوا عن الهداية والسعادة في غيره من أنظمة فكرية وسياسية وضعية شرقية وغربية.

من المعلوم أن المسلمين كانوا في أعلى مكانة ومنزلة، عندما كانوا متمسكين بدينهم، مدافعين عنه، مجاهدين في سبيله، وقد سادوا العالم بذلك لألف عام، ثم حدث الانحطاط والانحدار عندما تركوا دينهم، وبحثوا عن الهداية والسعادة في غيره من أنظمة فكرية وسياسية وضعية شرقية وغربية

وفي ذلك يصدق عليهم قول عمر رضي الله عنه (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله).

ومع كلمة عمر رضي الله عنه لنا وقفة، إذ يقول (ومهما ابتغينا العزة في غيره). وهو تعبير بليغ، استخدم فيه الفاروق (مهما ابتغينا) ليؤكد على أنه مهما حاول المسلمون واجتهدوا ليصلوا إلى العزة بعيداً عن دينهم فلن تكون لهم إلا الذلة.

ذلك لأن الله كتب على المسلمين ذلك من دون الناس. فمن الأمم من نراها عزيزة وهي ما تزال بعيدة عن دين الله، بل ومعادية له، وذلك إذا اجتهدت في تلمّس أسباب العزة المادية الدنيوية.

أما أمة الإسلام، فقد كتب الله لها العزة بالدين والذلة بغيره مهما حاولت واجتهدت في تلمّس أسباب العزة بعيدا عنه .

وهذا في الحقيقة رحمة من الله بأمة الإسلام، لأن القضية الحقيقية هي قضية الآخرة لا قضية الدنيا، فإذا ما أعطى الله لأمة الإسلام الدنيا وهي بعيدة عن عمل الآخرة والاستعداد لها، فإن ذلك سيكون مدعاة لها لنسيان الآخرة بالكلّية، والانهماك في الدنيا والغرق فيها.

أما إذا منع الله عن المسلمين الدنيا إذا ما ابتعدوا بأعمالهم عن دينهم وعن الاستعداد لآخرتهم، فإن ذلك سيكون باعثاً لهم على أن يقفوا موقفاً يتسائلون فيه عن الحال، وعن فقد الدنيا والآخرة معاً، وعن وجوب العمل لهما معا، فهما عند المسلمين متلازمان، إما يكون الفوز بهما جميعاً، وإما يكون فقدهما جميعاً، هكذا كتب الله عليهم كأمة.

نعود لعنوان الكتاب..

وقد استخدم الشيخ الندوي تعبير (انحطاط المسلمين)، ولم يتكلم عن انحطاط الإسلام أو انحداره أو حتى ضعفه.

لأن الحقيقة أن المسلمين هم الذين ضعفوا وانحدروا وانحطوا، وذلك لما تخلوا عن دينهم، وضعُف تمسكهم به، وعملهم بقتضياته. أما دين الإسلام فهو دين قوي عال، لا يضعف ولا ينحدر .

بل الحقيقة أنه دين يزداد قوة وعلواً كلما مر الزمان، ذلك لأنه يتضح لكل ذي بصيرة كم هو دين سماوي معصوم منزّه، أمام أديان سماوية محرّفة يزداد تحريفها، وأديان وضعية سخيفة تزداد سخافتها.

وفي هذا العصر الحديث خاصة، الذي ازداد فيه انحدار المسلمين وانحطاطهم، وانحدار العالم كله وانحطاطه، يزداد الدين الإسلامي قوة وعلوا، عندما يدرك الكثيرون كل يوم أنه الدين السماوي الحق الوحيد، الذي لم يزيّف ولم يحرّف، وهو الوحيد القادر على انتشال البشرية مما هي فيه من ضياع، عن طريق الموازنة بين الروح ومتطلباتها والجسد ومتطلباته، بحيث أن لا يطغى جانب منهما على الآخر، حتى لا تتحول الحياة إلى رهبانية لا جسد فيها، أو حيوانية لا روح فيها.
والشيخ الندوي يؤكد في عنوانه على أن العالم كله قد خسر بانحطاط المسلمين، ولم يخسر المسلمون وحدهم.

فماذا خسر العالم حقا بانحطاط المسلمين؟

أولا: خسر العالم آخرته
لأن أول ما كان يدعو العالم كله للدين الإسلامي عزةُ المسلمين وقوتهم وسيادتهم للعالم.

وفي هذه يؤكد ابن خلدون على أن من قوانين الاجتماع العمراني أن المغلوب غالباً ما يولع بتقليد الغالب، في دينه ولغته وعاداته.

ولذلك فإقبال العالم على دين الإسلام اعتناقا وممارسة قد كان في زمن عزة المسلمين أكثر وأغلب، أما في زمن انكسارهم وانحدارهم وانحطاطهم فهو أقل وأندر.

لقد خسر العالم بانحطاط المسلمين أكبر محفّز لهم على اعتناق الإسلام والتفكّر فيه والبحث عنه. وبالتالي فقد فقدوا بفقدهم لذلك الآخرة والسعادة فيها، عندما ظلوا في عمايتهم الدنيوية دون وحي الله وهدايته.

لقد خسر العالم بانحطاط المسلمين أكبر محفّز لهم على اعتناق الإسلام والتفكّر فيه والبحث عنه

ثانيا: خسر العالم دنياه

فلم يخسر العالم بانحطاط المسلمين آخرته فقط عندما خسر المحفز الأقوى على اعتناق الدين الإسلامي. ولكنه في الحقيقة خسر الدنيا كذلك، لأنه خسر بخسران المسلمين المنهج السماوي الحق الوحيد، الذي يوازن بين الروح والجسد لتكون السعادة والطمأنينة.

وقد سار العالم كله بخسرانه لهذا المنهج السماوي في ظلمات أنظمته البشرية التي جعلت من البشر أنعاماً لا تنظر في الحياة إلا لمتطلباتها ورغباتها الجسدية. بل أضحى البشر حقيقة أضل من الأنعام.

وفي هذا يقول الله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].

وذلك لأن الأنعام إنما تسير على ما خُلقت له، أما البشر فقد خلقهم الله لعبادته، والتماس أخراهم ودنياهم، فنسوا الله وآخرتهم، ولم ينظروا إلا لدنياهم، فكانوا كالأنعام، بل كانت الأنعام أفضل منهم.

ثالثا: خسر العالم عدالة السيد الغالب

فقد كان المسلمون عادلين رحماء يوم أن كانوا سادة غالبين على العالم كله، وقد شهد الغربيون المنصفون بذلك.

يقول المفكر الغربي أرنست تشريري: (الإسلام ليس دين تفرقة عنصرية ولا يدعي أبناؤه أنهم الشعب المميز أو الجنس المختار وأكثر من ذلك فهو دين عالمي للناس جميعاً).

ويقول ماسينيون: (يمتاز الإسلام بأنه يمثل فكرة مساواة صحيحة).

ويقول مفكر غربي آخر(إن ديانة محمد هي أبسط الديانات في قواعدها وأقلها استحالة في شعائرها وأكثرها تسامحاً في مبادئها).

أما اليوم، ففي ظل غلبة غير المسلمين وسيادتهم على العالم بعد انحطاط المسلمين، نجد الظلم طريقة واحدة لحكم العالم في ظل فساد سياسي واقتصادي عالمي، وتحكّم الأمم القوية بالأمم الضعيفة واستنزافها وسرقتها واستعبادها. مما شكل صورة حياة حيوانية كاملة، وغابة أصبحنا نعيش فيها، لا حياة حقيقية فيها إلا للقوي الغالب، الذي ينهش في هذا وذاك ومن هنا وهناك، ليظل الخوف منه والخنوع له هما المسيطران على الجميع من حوله.

لقد انحط العالم بانحطاط المسلمين، وازداد بعده عن دين الإسلام ببعد المسلمين عنه، وهو في أشد الحاجة اليوم لدين الإسلام وهدايته ونوره، لينقذه من بحار الظلمات التي يغرق فيها أكثر وأكثر كلما مر الزمان ، وسيظل العالم في حاجة شديدة لأمة الإسلام، كي تعلوا وتعزّ من جديد، فتستلم زمام السيادة، فيسود بذلك عدل الإسلام ورحمته على العالم أجمع، وتكون أمة الإسلام داعية لدينها الإسلامي العظيم مرغّبة فيه بعزها وسيادتها، لا منفرة وصادة عنه بانحطاطها وانحدارها.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب وشاعر وروائي مصري، مهتم بالفكر الإسلامي والحركة الإسلامية

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …