العشوائية والتخبط، ذلك هو عنوان الأداء العربي والإسلامي على مستوى الأنظمة في هذه الحقبة التاريخية السوداء، والتي تمر بها الأمة بمحنة غير مسبوقة، بالإضافة إلى كم كبير من التآمر الداخلي والخارجي لم يعرفه المسلمون من قبل.
وبما أننا معنيون بالتغيير الحضاري الإسلامي، باعتبار الإسلام هو دين الأمة، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وهويتها التاريخية والمستقبلية وسبب بقائها بل وسبقها الحضاري على مدى التاريخ، فحديثنا منصب حول الحركة الإسلامية المباركة التي حافظت على روح وهوية تلك البقعة من العالم لعشرات من السنوات الأخيرة، خاصة في فترات الاضمحلال الحضاري بوقوع الأمة في قبضة الاستعمار الأوروبي سابقا والصهيو أمريكي اليوم.
إن الحركة الإسلامية هي المعنية بإحياء منظومة القيم والمفاهيم الغائبة عن الوعي والعقل الجمعي للأمة ومنها قيمة التخطيط والعمل وفق مبادئ محددة ومعروفة مسبقا ، مع وجود بدائل استراتيجية وفقا لأي مستجدات قد تطرأ على العمل أثناء عملية التنفيذ، ولا ننكر أن التخطيط المستقبلي والاستراتيجي كان ديدن الحركة الإسلامية في معظم مراحلها التي استمرت لما يقرب من القرنين، غير أنها قد أخفقت في فترات أخرى لشدة الاضطهاد الموجه لها من ناحية، وغياب الكوادر المؤهلة لعملية تخطيط واعية نتيجة ذلك الاضطهاد من ناحية أخرى، ومن الواجب عليها اليوم قبل الغد أن تتدارك ما قد فات، وأن تلملم صفوفها، وتقنع أفرادها بأن هناك عقول تستوعب عملية التخطيط والمرونة اللازمة للخروج من المأزق الحالي، وأن الاتكال على قدرة الله وحدها ليست من التوكل في شيء، وإنما هو تواكل مذموم يأباه الدين ويرفضه العقل والمنطق، إن الخروج من الحالة الصفرية الحالية، لا تستوجب تغيير أفراد وقيادات، وإنما تستوجب تغيير فكر ومنهجية استراتيجية و قناعات ومفاهيم .مفهوم الخطة والتخطيط
التخطيط ببساطة هو محاولة التنبؤ بالمستقبل بناء على معطيات الواقع المفروض والعمل المتاح في ذلك الواقع، ويقول (هنري فويل) أن التخطيط يشمل التنبؤ بما سيكون عليه المستقبل متضمنا الاستعداد لهذا المستقبل.
أما الخطة فهي عملية وضع الأهداف العامة والمرحلية وفقاً للمعطيات والفرص المتاحة ومواطن القوة، و دراسة مكمن الضعف مع وضع آلية تلافي المشكلات القائمة والطارئة.
فعلى سبيل المثال إذا أردنا التخطيط للتعريف بقيمة الحجاب وحث الفتيات المسلمات على ارتدائه، فالخطوة الأولى في عملية التخطيط تتمثل بوضع هدف عام للخطة، بمعنى تحديد الفئة المستهدفة لتوصيل المعلومة وتحويلها لفعل، وكما قلنا هي الفتيات، ثم وضع مجموعة من الأسئلة لتحقيقها بشكل ناجح مثل:
- ما هي المرحلة العمرية المستهدفة؟
- ما الوسيلة الإعلامية والتربوية التي تجمعهن ويمكن العمل من خلالها؟
- من الذي سيقوم بالعمل هل هن معلمات أم ماذا؟
- هل نكتفي بوسيلة مثل الفيس بوك، هل نكتب كتيبات صغيرة أو مطويات؟
- هل ينبغي إقامة علاقة مع الأسر ومتابعتها؟
- كم عدد الفتيات المستهدفات؟
- ما هي المدة الزمنية التي يجب أن أنتهي فيها من إقناع وتوعية هذا العدد؟
- ما هي نسبة النجاح والفشل؟
- ما هي المعوقات التي يمكن أن نقابلها؟ هل هي معوقات أمنية أم مجتمعية؟
- كيف يمكن مواجهة تلك المعوقات؟
- ما هي مواطن القوة عندنا؟
- هل لدينا كوادر مؤهلة علميا وفنيا للقيام بالعمل؟
- هل لدينا الوسائل الفنية والتربوية اللازمة؟
لذا تتلخص عملية التخطيط في وضع الهدف، ثم وسائل التنفيذ والوصول لتحقيق هذا الهدف في فترة زمنية محددة يقوم بها أشخاص محددون.
وهكذا في كل قيمة تربوية أو مجتمعية أو سياسية تكون سبل التخطيط باستعراض كافة نقاط القوة لتوظيفها بالشكل الأمثل وعدم إهدار الوقت والجهد فيما لا يجدي، كذلك استعراض نقاط الضعف ووضع آلية لمواجهتها حتى لا يتوقف العمل فجأة نتيجة عدم وضع احتمالات الخطأ والإعاقة، كذلك يجب وضع جدولة زمنية محددة، ويجب أن تتسم الخطة بالمرونة والقابلية للتعديل إن لم يكن هناك استجابة للوصول للهدف الموضوع مسبقا، أو بسبب مواجهة التحديات المستجدة مع ملاحظة ترتيب الأولويات، وفي هذا الخضم يقول الصديق أبو بكر في وصية لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: "واعلم أن لله عملا في الليل لا يقبله في النهار، وأن لله عملا في النهار لا يقبله في الليل" وذلك هو ترتيب الأولويات حسب الوقت.
يجب أن تتسم الخطة بالمرونة والقابلية للتعديل إن لم يكن هناك استجابة للوصول للهدف الموضوع مسبقا، أو بسبب مواجهة التحديات المستجدة
أنواع التخطيط
ينقسم التخطيط إلى أنواع نذكرها هنا في إيجاز:
أولا: التخطيط الزمني، وهو عبارة عن خطط طويلة الأمد وهي ما تسمى بالتخطيط المستقبلي على المدى البعيد، وخطط قصيرة الأمد ومتوسطة الأمد.
ثانيا: التخطيط التتابعي، وهو البدء من حيث انتهى الآخرون، إن آفة الكثير من المؤسسات تتمثل بإنهاء الخطة بانتهاء من وضعها أو توقفه لسبب ما، فيبدأ التخطيط من جديد وفي هذا الحالة لا تتقدم المؤسسة خطوة واحدة إلا بمقدار وجود القائد المخطط وبقائه فيها، فإن غادرها انتهت الخطة لتبدأ من جديد مع القائد الجديد، فتهدر الجهود التي بذلت بالفعل.
ثالثا: التخطيط التحليلي، وهو ليس نوعاً من أنواع التخطيط بالمعنى المعروف، وإنما هو طريقة لوضع حل لمشكلة ما بطرح المشكلة على القائم بالتخطيط، وطرح عدة حلول لها والاختيار حسب الواقع.
إن آفة الكثير من المؤسسات تتمثل بإنهاء الخطة بانتهاء من وضعها أو توقفه لسبب ما، فيبدأ التخطيط من جديد وفي هذا الحالة لا تتقدم المؤسسة خطوة واحدة إلا بمقدار وجود القائد المخطط وبقائه فيها
أهمية التخطيط للحركة الإسلامية المعاصرة
سأضرب مثالاً مبدئياً عن أهمية التخطيط من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لما بعث عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن قال له: " إنَّكَ ستأتي قَوْمًا أهلَ كتابٍ، فإذا جئتَهم فادْعُهم إلى أنْ يشهدُوا أنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمَّدًا رسولَ اللهِ، فإِنْ هم أطاعوا لَكَ بذلِكَ، فأخبرْهم أنَّ اللهَ قَدِ فرَضَ عليْهِمْ خمسَ صلَوَاتٍ في كُلِّ يومٍ وليلَةٍ، فإِنْ هم أطاعوا لَكَ بذلِكَ، فأخبرْهم أنَّ اللهَ قدْ فَرَضَ عليهم صَدَقَةً، تُؤْخَذُ منْ أغنيائِهم، فتردُّ على فقرائِهم، فإِنْ هم أطاعوا لَكَ بِذَلِكَ، فإيَّاكَ وكرائِمَ أموالِهم، واتَّقِ دعوَةَ المظلومِ، فإِنَّه ليسَ بينها وَبينَ اللهِ حجابٌ" (رواه البخاري).
إن الحديث النبوي الشريف هو نموذج دقيق من التخطيط، فهو قد أجاب عن الأسئلة الأربعة وهي: أين ومتى ومن وكيف.
فأين جوابها: اليمن.
ومتى: حين يصل إليهم ويبدأ دعوتهم.
ومن: هو معاذ المكلف بالرسالة.
وكيف: بالعدل والرحمة والحكمة، كل ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام "واتق دعوة المظلوم" وهكذا.
وكما طرحنا سابقا إن التخطيط كان سمة لازمة للحركة الإسلامية على مدار القرنين الأخيرين، غير أن الضغوط الخارجية ساهمت في عدم تجديد الفكر الحركي بما يتواكب مع مستجدات العصر والتطور التكنولوجي الرقمي ، فعجزت الحركة عن استيعاب عقول بعض الشباب والمفكرين الذي بدؤوا في الفكاك منها، كذلك عجزت عن مسايرة عقل عدوها المنفتح على الغرب والمتلقي منه، علاوة على وسائل القوة في يده.
إذن فقد أصبح التخطيط ضرورة وحتمية استراتيجية بدلاً من التخبط والسير على غير هدى، فالتخطيط سيساهم في معرفة نقاط القوة بها، وتوظيفها بأفضل ما يكون بدءاً من الكوادر المختلفة من شباب ونساء وصولاً إلى المفكرين والمعلمين والعلماء.
كذلك سوف يساهم في معرفة معظم المعوقات التي يمكن أن تقابلها الحركة أثناء تحقيق أهدافها العامة والمرحلية.
كما أنه يساهم في تنمية عقول القائمين على التخطيط باستحداث وابتكار وسائل جديدة، بالإضافة إلى اختصار الوقت، فالمخطط يفترض المشكلات، ويضع لها حلولاً نظرية، فكأن التخطيط هنا يضع الأخطاء على الورق لتلافيها عملياً.
ومن أهم ميزات التخطيط أنه يحدد الأدوار بدقة، فكل فرد في المؤسسة يعلم جيدا ما عليه فيؤديه دون تداخل للاختصاصات ، ويسهل كذلك عملية المحاسبة على النتائج إن حدث نوع من التقصير.
ختاما.. إن التخطيط الاستراتيجي لم يعد من الرفاهية بمكان، وإنما هو الدعامة الكبرى التي يرتكن إليها أي عمل، خاصة العمل مع الله.