التخطيط في حياة الأنبياء

الرئيسية » بصائر الفكر » التخطيط في حياة الأنبياء
Man writing on paper with pen

إن فكرة التخطيط ليست بدعا من الأفكار، أي أنها ليست من الأفكار المستحدثة، وإنما هي سنة ربانية يقتضيها الشروع في أي عمل، وتقتضيها كذلك أي عملية تغيير على أي مستوى عام أو مؤسسي أو شخصي، وإن كان أي عمل دنيوي يستلزم التخطيط كي يكتب له النجاح أو يضمن سيره على الطريق الصحيح ويتلافى جملة من الأخطاء التي يمكن أن تهدده بالتوقف في بعض مراحله فالعمل مع الله أوجب أن تبذل فيه كل الوسائل الممكنة  انطلاقا من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون} [الحشر:18-19].

وقوله تعالى: {قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون، ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون، ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} [يوسف:47-49].

فهذه الآيات تأمر بالتخطيط على المستوى الفردي والمستوى الجماعي بالإعداد للآخرة التي هي "الغد" بالتقوى.

وحياة الأنبياء زاخرة بمظاهر التخطيط؟ بل كل خطوة في سبيل الدعوة كانت مخططة لها.

التخطيط وسيلة الأنبياء والمرسلين

ونستعرض في هذه السطور نماذج من عمليات التخطيط في حياة بعض الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، ونبدأ بسيدنا نوح عليه السلام والذي دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما بالنص القرآني، ولم يؤمن معه إلا قليل، فبعد مرور تلك السنوات علم نبي الله من الوحي أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وأنه لن يزيد عددهم رغم الجهد المبذول منه عليه السلام، فأذن الله عز وجل بمعاقبة الكافرين بإغراق الأرض بمن فيها غير تلك الفئة القليلة المؤمنة، وحين علم نوح عليه السلام بذلك شرع في بناء السفينة وهي الخطوة الأولى في عملية التخطيط، ويجب أن نعلم أن نوحاً عليه السلام لم يدع على قومه بالهلاك إلا حين تيقّن أنه لن يؤمن معه آخرون، وأن وجود الكافرين يمثل خطراً على عقيدة من آمن .

ولا نظن أن الأمر سهل، فالهدف كان إنقاذ الفئة المؤمنة، لأن كل ما على وجه الأرض سوف يهلك، ومن ثم فقد خطط عليه السلام لبناء سفينة تسع هؤلاء المؤمنين وما معهم من الحيوانات، وكميات من الماء والطعام تكفي مدة طويلة، هي تلك المدة التي تحتاجها الأرض لتبلع ماءها بعد توقف السماء عن المطر.

وتحملت الفئة المؤمنة الكثير من السخرية وهي تبني سفينة في عمق الصحراء، وكان لا بد من الأخذ في الاعتبار العنصر الزمني، وموعد اللقاء، ووسيلة التواصل التي حددها الله عز وجل في قوله {حتى إذا فار التنور} أي أن مواقد النار تفور بالماء وهي علامة بدء عملية الإغراق للكافرين، فالخطة حددت الهدف، ثم نفذت الوسائل بالبناء، وجمع الحيوانات، والطعام اللازم والاتفاق على موعد التجمع، وكانت النتيجة النجاح بامتياز في إنقاذ جميع المؤمنين.

خلاصة قصة نوح عليه السلام تبدأ بوضع خطة للعمل الدعوي ليشمل الليل والنهار، أي كافة الأوقات التي تلائم المدعويين لا الداعية، ثم وضع خطة لإنقاذ المؤمنين بعد أن أذن الله بالعقاب الجماعي، تبدأ ببناء السفينة، اختيار الحيوانات والطيور، تخزين الطعام، توفير كميات من الماء، كلها أعمال على التوازي، ثم موعد التنفيذ النهائي حين يفور التنور.

خلاصة قصة نوح عليه السلام تبدأ بوضع خطة للعمل الدعوي ليشمل الليل والنهار، أي كافة الأوقات التي تلائم المدعويين لا الداعية، ثم وضع خطة لإنقاذ المؤمنين بعد أن أذن الله بالعقاب الجماعي، تبدأ ببناء السفينة، اختيار الحيوانات والطيور، تخزين الطعام، توفير كميات من الماء، كلها أعمال على التوازي، ثم موعد التنفيذ النهائي حين يفور التنور

وهذا سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وضع خطة تعريف الناس بربهم، فوضع خطة تبدأ بالسخرية من الأصنام التي يتخذونها آلهة من دون الله، والبداية دائما تكون مع المقربين كما قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء:214]، فبدأ نبي الله إبراهيم بأبيه الذي يعمل بصناعة الأصنام، {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]. ثم مناظرته العملية مع قومه: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58]. إلى أن وصل إلى كبير البلد "النمرود" في مناظرته المعروفة {..إذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر والله لا يهدي القوم الظالمين} [البقرة:258].

التخطيط المركب هو خلاصة قصة إبراهيم عليه السلام، بمعنى أن التخطيط كان لهدف عام هو تعريف الناس بعقيدة التوحيد، وأما الأهداف المرحلية فهي كالتالي: أولي القربى، ثم القاعدة الشعبية، ثم الحاكم، ولكل هدف مرحلي وضع عدة وسائل تحقق كل هدف على حدة.

التخطيط المركب خلاصة قصة إبراهيم عليه السلام، بمعنى أن التخطيط كان لهدف عام هو تعريف الناس بعقيدة التوحيد، وأما الأهداف المرحلية فهي كالتالي: أولي القربى، ثم القاعدة الشعبية، ثم الحاكم، ولكل هدف مرحلي وضع عدة وسائل تحقق كل هدف على حدة

التخطيط في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم

على مدى الثلاثة والعشرين عاما والتي تمثل عمر الدعوة النبوية لرسول الله عليه الصلاة السلام، لا نجد خطوة من خطواته بلا تخطيط مسبق منذ بداية نزول الوحي، وحتى لحظات وفاته عليه الصلاة والسلام، وكان التخطيط جلياً في المرحلتين المكية -أي وقت بداية الدعوة والاستضعاف- ثم المرحلة المدنية -وقت إقامة الدولة والتمكين- وسأسلط الضوء على المرحلة المكية، نظراً لتشابه كثير من أحداثها العامة مع واقعنا المعاصر.

فقد استغرقت المرحلة المكية ثلاثة عشر عاما قضاها النبي بمكة ويمكن تقسيمها لثلاث فترات رئيسة في عمر الدعوة اتسمت كل منها بسمات خاصة:

المرحلة الأولى: هي فترة الدعوة السرية واستمرت ثلاث سنوات، كان يجتمع المسلمون فيها بعددهم القليل في دار الأرقم ابن أبي الأرقم، تقع على أطراف مكة بعيدا عن الأعين، تخير النبي المقربين إليه ممن لن يتسببوا في صنع قلاقل له في بداية دعوته، فقد آمنت به زوجته خديجة رضي الله عنه منذ اللحظة التي اصطحبته فيها لابن عمها ورقة بن نوفل وبشرهم بالنبوة، ثم عرض الأمر على صديقه المقرب أبي بكر الصديق، ثم ابن عمه الصبي الذي يقوم على تربيته في داره، على بن أبي طالب، ثم آمنت الفئة المؤمنة الأولى الذين شرح الله صدورهم للإسلام، كان لا بد من إيجاد دار يجتمع فيها المسلمون مع نبيهم لتلقي المنهج التربوي المنزل من السماء، شرط ألا يعرف به أحد خاصة وأن الأخبار بدأت تصل لقريش، غير أن المواجهة لم تعلن بعد لأنه لم يؤذن بعد بالخروج بالدعوة من دائرة السرية، والسرية في الدعوة لم تكن تعني عدم معرفة قريش بالدين الجديد، وإنما كانت تعني سرية التلقي، وسرية التربية وتأهيل النفوس لتحمل تبعات المسئولية تجاه الدين الوليد، وكذلك سرية الإعداد، لكن الأمر بالفعل كان قد تسرب للقوم بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمعه من أخته وزوجها وقد دخل في الإسلام في الوقت الذي كان ذاهباً فيه لقتل محمد صلى الله عليه وسلم، ويشهد التاريخ على نجاح التخطيط في فجر الدعوة في صناعة رجال تفتح على أيديهم الدنيا وشيدت أعظم حضارة عرفها التاريخ.

المرحلة الثانية: هي التي بدأت بعد قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد النبي صلى الله على جبل الصفا ودعا قبيلته ذاكرا أعمامه بالاسم ليذكرهم بالقرابة التي بينهم، ثم يذكرهم بصدقه طيلة هذه السنوات حين يجتمع القوم، وتلك بداية موفقة، حين يشهد من أمامك بصدقك، فالمعرفة السابقة لصاحب الرسالة بالناس وحسن علاقته بهم تكون حجة عليهم في رفض دعوته، فقد أقروا أنه لو أخبرهم بأي مصيبة قد تصيبهم فسوف يصدقون، ثم عرض عليهم دعوته التي كانت تصلهم عبر كلمات غير مفهومة، وقد أصبحت واضحة الآن، وبدأ الصراع الأول بين الحق والباطل، هنا أظهرت المحنة أهمية الإعداد ليس بالقوة المادية، وإنما بقوة النفوس المؤمنة التي تحملت الضربات الأولى وصمدت وصبرت حتى هاجرت من ديارها حفاظا على هذا الدين.

أظهرت المحنة أهمية الإعداد ليس بالقوة المادية، وإنما بقوة النفوس المؤمنة التي تحملت الضربات الأولى وصمدت وصبرت حتى هاجرت من ديارها حفاظا على هذا الدين

المرحلة الثالثة : حين تم التضييق على الدعوة داخل مكة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعرض للقبائل الوافدة لمكة لعبادة الأصنام المنتشرة حول الكعبة، وهنا يجب أن يتسم الداعية بالمرونة، والخروج من بوتقة الجغرافيا، فالدعوة عالمية وتستوعب كافة الأجناس ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأهل مكة خلوا بيني وبين الناس، في الوقت الذي تضاعفت فيه الحرب الإعلامية المضادة بتحذير كل من يدخل مكة من لقاء ذلك الذي يدعو إلى دين جديد يخالف دين الآباء والأجداد ويوقع الفتنة بين الناس، ونتج عن تلك اللقاءات بيعة العقبة الأولى والثانية ليدخل الإسلام في مرحلة أكثر سعة، وهي مرحلة بناء الدولة بعد الهجرة لأرض ثابتة صارت وطنا آخر للدين وأهله، وتلك مرحلة تستوجب منا حديث بشكل خاص لعظم الدروس المستفادة منها، دروس الهجرة وبناء الدولة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة مصرية، مهتمة بالشأن الإسلامي العام، حاصلة على بكالوريوس إعلام من جامعة القاهرة، وكاتبة في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية، لها العديد من المؤلفات المنشورة، مثل: المنهاج في الدروس المسجدية للنساء، معالم على طريق التمكين الحضاري، وأبجديات الثورة الحضارية وغيرها.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …