- "الدُّعاءُ ينفَعُ ممَّا نزَل وما لَمْ ينزِلْ، وإنَّ الدُّعاءَ لَيَلْقى البَلاءَ فيَعْتَلِجانِ إلى يومِ القيامةِ" [المنذري].
- "الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ" [صحيح الحاكم]
- "لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ" [الترمذي]
على ما أخبرنا الله به وما ورد عن المصطفى عليه السلام في شأن #الدعاء، يشغل كثير من المسلمين أنفسهم بتساؤلات ليست من جهتهم في شيء، بل وتفتح عليهم أبواب تشكك وسوء ظن وأدب كانوا في غنى عنها. مثل: ما نفع الدعاء إذا كان القدر مكتوباً؟ وما جدوى طلب ما أريد ولن يكون إلا ما الله يريد؟ وكيف يمكن أن يدفع الدعاء القدر؟ وربما رأيتَ من يهوّنون من أمر الدعاء، محتجين بأن ما يطلبه العبد إما أن يكون مسطوراً في قضاء الله أو لا، فإن كان مسطوراً لم ينفعه الدعاء في طلب الوقاية منه! وإن لم يكن مسطوراً لم يحتج إلى الدعاء من أصله!
وقد تم الرد التفصيلي على مثل تلك الاستشكالات في كتب أهل العلم، وتفصيل العلاقة بين الأسباب والمسبَّبات، ومشيئة الله وفعل العبد، يرجع لها من اعتنى بالجواب. لكن المقام هنا يقتضي الرد من جهة أخرى:
سبحان الله، الله هو المَدعوُّ والمُقدِّر، وقد أمر عباده بالدعاء ووعدهم بالاستجابة، ووعد الله صدق لا يلحقه خلف . فهذا ما يهمك أنت، فما لك وللبحث فيما ليس من شأنك واختصاصك؟! ما شغلك أيها العبد بعد خَبَر وصلك وتكليف بَلَغك؟! وفيم تؤرّق فكرك في أمر عائد إلى تدبير الله تعالى وعظيم قدرته وسلطانه؟! قضاء الله تعالى حُكم من أحكامه، واستجابة الدعاء وعد قطع على نفسه بإنجازه، وسؤاله ودعاؤه تكليف واضح كلف عباده به. وإنما جهتك واختصاصك وشغلك أن تخضع لحكمه وتؤمن بوعده وتقوم بتكليفه ثم تكل تدبير الأمر إليه.
ما شغلك أيها العبد بعد خَبَر وصلك وتكليف بَلَغك؟! وفيم تؤرّق فكرك في أمر عائد إلى تدبير الله تعالى وعظيم قدرته وسلطانه؟!
وتأمل فيما وقع مع أُمّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين دعت: "اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ" [مسلم]. فإن ظاهر الحديث لغير الفاهم يبدو متعارضاً مع الوصايا السابقة بالدعاء في كل أمر، ثم إنه إن كانت الآجال والأرزاق مفروغاً منها فكذلك خواتم العباد ومصائرهم في الجنّة أو النار. فالجواب كما ذكره النووي في شرحه على مسلم أن الجميع مفروغ منه عند الله تعالى، لكن العبد يتعبد بما ورد الشرع به من العبادات، ومنها الدعاء بالنجاة من عذاب النار ومن عذاب القبر ونحوهما عبادة، وأما الدعاء بطول الأجل فليس عبادة؛ انتهى.
(واتفق أهل العلم على جواز الدعاء بتطويل العمر بقصد البركة فيه خاصة لمن يُرجى خيره. وهذا من نوع ما ورد في أحاديث أخرى أن البر وصلة الرحم "يزيدان" في العمر).
وتأمل في هدي الأنبياء عليهم السلام وفهمهم: فعن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَلْقَاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" [صحيح الحاكم].
جمع المصطفى عليه السلام بين التقرير تسليماً إلى أنه لا يغني حذر من قدر، واتخاذه في سيرته من أسباب الحذر كما أمر الله: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71]. وسئل عليه السلام: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ" [سنن الترمذي]. فانظر للجواب المحكم في إيجاز، وقبول الصحابة له بقلب سليم دون إطالة في الجدل وتعنّت في التفاصيل.
وورد في القرآن على لسان سيدنا يعقوب عليه السلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ۚ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)} [يوسف]. فانظر لكمال فهمه عليه السلام وأدبه مع ربه، فقد علم أنه لا يغني بتدبيره عن أولاده شيئاً من قدر الله، وعمل في ذات الوقت بما علمه الله من اتخاذ ما بدى له من أسباب وتفويض الأمر لربه.
والخلاصة أنه من جهة الرب تبارك وتعالى لا انفصام ولا تعارض ولا وجه استشكال بين جريان القدر وإجابة الدعاء . وإنما كل هذا ينشأ هذا في جهة العبد عندما يُقحِم نفسه في جهة الرب، متأثراً ومتلوثاً في ذلك بشوائب أفهام وتصورات ثقافات أخرى، بدل أن يلتزم ما علَّمه الله وما أمره، ثم يَدَع عنه الخوض فيما لا يعنيه استقصاؤه ولا طاقة له بعلمه.