إنّ سعينا الذي ندعيه في الله، هو في غالبه منفصم عنه، بل مُتَجرّئ عليه – تعالى - في كثير من الأحيان! يكفي مثلًا أننا نتحرك في مختلف مسارات الحياة ومفترقات الاختيار كل يوم، ولا نكاد نعرف الاستخارة أو نفقه مرادها إلا في مَحطّات مُعيّنة أو كبرى: التخصص الدراسي، والوظيفة، والزواج! وقد سبق في الكلام على الاستخارة شرح حديثها: "كانَ رسولُ اللهِ يُعلِّمنا الاستخارةَ في الأمورِ كلها...". واذكر مقولة السيدة زينب بنت جحش عليها الرضوان، لما أتاها خبر رغبة النبي عليه السلام في خطبتها، قالت: {مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّي، فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا...} [مسلم]. فكم أمر من أمورك تذكر أن تؤامر ربك فيه؟!
إننا لا نكاد نذكر أن نُؤامِر ربَّنا في حياتنا، لأننا نكاد نؤمن بأننا من يتحرّك بذاته، وأننا من يفعل بنفسه، وأننا من يهتدي بجهده، وأننا من يَصِل بسعيه. ولأننا نكاد نؤمن بالأسباب من حيث كونها مُسبِّبَة بنفسها، لا أن الله يسبّبها فما شاء كان وما لم يشأ لن يكون. فلا نكتفي بالأخذ بها ثم تفويض العواقب لله، بل نتعلّق بها على الحقيقة ونضمن لأنفسنا من عند أنفسنا نتائجها. ومن ثم نشعر في قرارة نفوسنا بالاستغناء عن نور ربنا وتوفيقه ورزقه، ولا نستطيع في المقابل أن نشعر بافتقار حقيقي أو بحقيقة افتقار لربنا، اللهم إلا في النوازل العظمى التي تعجز عنها قوتنا الذاتية! هذا واقع الحال وإن تَحرَّج من نطقه اللسان.
إننا لا نكاد نذكر أن نُؤامِر ربَّنا في حياتنا، لأننا نكاد نؤمن بأننا من يتحرّك بذاته، وأننا من يفعل بنفسه، وأننا من يهتدي بجهده، وأننا من يَصِل بسعيه
والدّاهية بعد كل هذا أن حتى ذلك السعي المنفصم عن الله ليس جادًا كفاية ولا مجتهدًا حقيقة! فلا صاحبه آخِذ بالأسباب المعنوية ولا المادية! كم ممن يؤرّقهم همُّ العظمة ولا يكاد أحدهم يقدر على مفارقة الفراش لصلاة الفجر بعد سهر على ألعاب الفيديو والدردشات! وكم ممن ينتظر أن يهبط الشغف في حجره ويوضع صَولَجَان العظمة في يمينه وشارة البطولة في شماله، دون أن يُكلِّف نفسه عناء البحث والتعلم واستيفاء المعارف والمهارات المتاحة والأساسية، حتى تتفتَّق له الآفاق التي من نصيبه! وكم ممن يتقلّب بين الخطط والتخطيط لما يكون، ويُمنّي نفسَه في كل يوم أن غَدَه أفضل، فإذا جاء غَدُه كان كأَمْسِه!
وكم ممن ينفق أيامه بلا حساب في متابعة غيره من الساعين والناجحين، نائحًا على نفسه المسكينة ساخطًا على حظّه العاثر متحسرًا على قسمته من الدنيا، وما دار بخَلَدِه كم إنّ وراء كل درجة يعلوها مَن يعلوها، عثرات وآهات واصطبار وكَدّ سبقت كل درجة منها ورفعته إليها! ولو أنفق ذلك المتحسّر ربع الوقت المهدر على متابعة أحوال من حوله، في مطالعة تراجم العلماء والقادة ومشاعل الإنسانية الأصيلة والتعلم من قدواتها، لكان أنفع وأجدى.
أمَا بلغ أولئك قول الزمخشري رحمه الله:
أأبيت سهرانَ الدُّجَــــى وتبيتُه *** نومًا وتبغي بعد ذاك لَحَاقي؟!
وما سمعوا قول القائل:
لا تَحسَبِ المجدَ تمرًا أنتَ آكلُه *** لن تبلغَ المجد حتى تلعَق الصَّبرا؟!