الشغف.. عَمار أو دَمار

الرئيسية » بصائر تربوية » الشغف.. عَمار أو دَمار
19-254320_Types-of-Motivation_BLOG

الشغف هو شعور قويّ قلما يستطيع إنسان السيطرة عليه، هذا الشغف ينتج عن لهفة شديدة، وحب متدفق، وحنين لا يُقاوم، وحنان لا يُقارن.

الشغف يكون نحو شخص أو لقاء أو مناسبة أو هواية أو فرصة، أو حتى نحو نظرة خاطفة من عزيز أو لعزيز علينا.

الشغف هو انتقال الفكرة من العقل المُدرك إلى القلب النابض فتتحول إلى جَوَى يسيطر على كل ذرة في كيان صاحبه .

الشغف قد يسيطر على العقل فيفقده صوابه وتوازنه وحكمه على الأمور، بل ويتلاعب به تلاعب الصبيان بالكرة، ورد في الحديث الشريف "حبُّكَ الشيءَ يُعمي ويُصِمُّ" (سنن أبي داود).

يُروى أن قيس بن الملوح "مجنون ليلى" تابع كلب ليلى ليدله على مكانها، فمر على جماعة يُصلون، وعندما عاد ماراً بهم قالوا له: أتمر علينا ونحن نصلي ولا تصلي معنا؟ قال لهم: أكنتم تصلون؟ قالوا: نعم، قال: والله ما رأيتكم، و والله لو كنتم تحبون الله كما أحب ليلى ما رأيتموني قط".

إن الشغف عندما يتم ريّه وإشباعه يزداد تأججه وتدفقه لدرجة لا يمكن مقاومتها ولا السيطرة عليها ولا الحد منها، ومتى تم تجاهله فإنه يذبل ويصبح هشيماً تذروه الرياح، وبلا رجعة.

الشغف هو مفتاح المتناقضات كلها فبه يرتقي المرء إلى قمة النجاح، وبه يهوي إلى هوة سحيقة من الفشل الذريع.

الشغف يجعل صاحبه يُسبِغُ على ما يصْبُو إليه هالةً من القداسة، فتراه لا يسمع لآراء من حولَه ولا لنصائحهم، ولا يُلقي بالاً لمن يقدمون له البراهين والحُجج على خطأ طريقه ما دام هو وحده مقتنع بما يفعل، ولخلعُ ضِرس الشغوف أهونُ عليه من الانصراف عن غايته.

مثيرات الشغف

إن من مثيرات الشغف هو ما قام به النبي ﷺ حين وصف الجنة ونعيمها للصحابة رضوان الله عليهم ليزداد شغفهم بها وتطلعهم إليها والعمل لبلوغ نعيمها. وهو يولد لدى صاحبه الإبداع وحب المغامرة، فالشغف بالنسبة لصاحبه حياة فوق الحياة.

وهو قد يولد نتيجة لتعرض الشخص أو أحد المحيطين به لموقف من المواقف، حينها يصبح الشخص شغوفاً بأشياء لم يتوقعها ولم تخطر يوماً بباله، مثل الأعمال الخيرية والتطوعية، أو تفوق بعد إخفاق، وانضباط بعد تسيب واستهتار.
لكنه إذا وافق قدرة ذاتية أو موهبة فإنه يفرز طاقة أكبر، والتزامًا أشد، وإرادة أقوى للوصول للهدف.

بالإضافة إلى أنه لا يرتبط بسن دون سن ولا بمكانة دون مكانة ولا بثقافة دون أخرى.

إن ما يثير شغف الإنسان في مرحلة ما من مراحل حياته ليس بالضرورة أن يستمر معه بنفس القوة باقي مراحل حياته، فالأطوار تتغير والأحوال تتبدل، وقوة المثيرات تختلف.

فقدان الشغف

إن الشغوف حين يتم تجاهله تتبلد مشاعره، ويفتر حنانه، وتصبح مُثيرات الشغف عنده هي والعدم سواء. أو أن يُصاب عقله بلوثة ودرب من دروب الجنون، وما حال مجنون ليلى عنا بخفي.

قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

حين تخلو الحياة الزوجية من الشغف يحل محله الكرْه والصدود والملل والرتابة وتبلد المشاعر، ويصبح القرب والبعد بين الزوجين سواء، بل يجد كلا الزوجين في البعد تنفساً للصعداء.

إن أصعب أنواع الفقدان هو فقدان الشغف، فحين يُفقد الشغف يتحول إلى لا مبالاة وعدم اكتراث وصدود بنفس درجة اللهفة التي كانت على نفس الشيء من قبل.

حين يفقد الشخص الشغف فهو حتماً يمارس الموت البطيء لأن فقدان الشغف قتل ناعم لا علاج له، حيث لا يكاد يجذب المرء ثمة شيء نحو أي شيء !

إن أصعب أنواع الفقدان هو فقدان الشغف، فحين يُفقد الشغف يتحول إلى لا مبالاة وعدم اكتراث وصدود بنفس درجة اللهفة التي كانت على نفس الشيء من قبل

الشغف البنَّاء

الشغف البناء هو الأيقونة المُثلى للنجاح إذا ما تم استثماره بالشكل الصحيح وتُرجم إلى جهد ومثابرة. ومن عوامل نجاح الشغف هو وضوح الغاية، والإخلاص لبلوغها، والثبات عليها، واستمرار البذل حتى تتحقق .
الشغف البنّاء هو اليقين الذي يتجدد داخل صاحبه كل لحظة، ويهتف بداخله كل وقت بأنه سيصل إلى مبتغاه.

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إنَّ لكلِّ عمَلٍ شِرَّةً وإنَّ لكلِّ شِرَّةٍ فترةً فمَن كانت شِرَّتُه إلى سُنَّتي فقد أفلَح ومَن كانت شِرَّتُه إلى غيرِ ذلك فقد هلَك" (صحيح ابن حبان).

- قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في مُحرَّم؛ رُجي له أن يعود خيرًا مما كان".

- جاء في كتاب "صفحات من التاريخ الإسلامي في الشمال الإفريقي" لـ على محمد الصلابي: "وقد اجتمع له -أي: لعقبه بن نافع- البربر في عالم لا يُحصى، فلقيهم وقاتلهم وهزمهم وسار عقبة حتى بلغ (ماليان) ورأى البحر المحيط فقال: "يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك، ثم قال: اللهم اشهد، أني قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحد دونك".

شغف لا طائل منه ولا منفعة

يُحكى أن أحد الأمراءِ قديماً سمع عن رجلٍ يزْعُم أنه ذو موهبَة فذَّة ونادرة النظير، فجيء بالرجل بين يدي الأمير، ليعرض موهبَته مقابل أن يُجزِل له العطاء، فوضع الرجل إبرة صغيرة وثبتها في الأرض على مرمى أمتارٍ منهُ ثم أخذ إبرة أخرى فرمى بها الأولى لتنفُذ من مكان الخيط إلى الجهة الأخرى.

كانت النتيجة أن أمرَ له الأميرُ بمائة دينار ومائة جَلدة، فسُقِط في يده واستفسر عن الأمر فكان جواب الأمير: أن مائة دينار لأنك أتقنت العمل وتكبدت عناء المِراس مدةً طويلة لتجيد الرَّمي، ومائة جلدة لأن العمل لا يُفيد شيئاً ذا بال لا من قريب ولا من بعيد.

إن الشغف لا يجب أن يتحول إلى هوس وانفلات وفوضى، يهدم ولا يبني ويفسد ولا يصلح .

قال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 30].

يقول الإمام السعدي في تفسير: "{قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أي: وصل حبه إلى شغاف قلبها، وهو باطنه وسويداؤه، وهذا أعظم ما يكون من الحب" أهـ.

إن الغاية من الشغف إذا لم تكن بناءة وذات جدوى ومنفعة تعود على المرء وعلى مجتمعه بالفائدة، فلا معنى للكد والنصب فيها، ومهما بلغ صاحبُها من الجهد في تحصيلها فيُخشى أن يكون من الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا.

إن الغاية من الشغف إذا لم تكن بناءة وذات جدوى ومنفعة تعود على المرء وعلى مجتمعه بالفائدة، فلا معنى للكد والنصب فيها، ومهما بلغ صاحبُها من الجهد في تحصيلها فيُخشى أن يكون من الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا

وأخيراً أقول

أحسنوا التعامل مع شغف كل من يهمه أمركم ويهمكم أمره، هواياته وميوله ومشاعره وطموحه.

لا تقتلوا الشغف فإن قتله يُحوِّل الدماء الدافئة المتدفقة إلى جلطات وتخثرات تولِّد الإعراض واللامبالاة، والمعاملات الفاترة، والمشاعر المتبلدة، والصدود والجفاء، وكل هذه هي مظاهر للفشل الذريع.

لا تقتلوا الشغف فإنه ليس مالاً يُعوَّض، ولا مكسوراً يُمكن إصلاحه، بل شعور يُوأد ويصبح نسياً منسياً.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …