القصص القرآني واقتفاء طريق الحق

الرئيسية » بصائر تربوية » القصص القرآني واقتفاء طريق الحق
quran-fact

ترقد الأمة اليوم أفراداً وجماعات في سبات عميق وتعاني من الغفلة المتراكمة التي أفقدتها بوصلتها وثقتها في تاريخها وحاضرها وماضيها فأذهلها ذلك عن الإعداد لمستقبل حري بها، ولا بد من إعادة لبعث الحياة في روحها من جديد لتنهض وتؤدي ما عليها من أمانة الرسالة في حق نفسها وغيرها، إلا أنّ أي محاولة لبعث الأمة من رقدتها وسباتها لا بد أن تكون انطلاقتها من القرآن الكريم وأي محاولة منفصلة ومنفكة عن القرآن وسنة المصطفى ستكون منقوصة أو بالأحرى مكللة بالفشل.

ومن الأساليب التي اتبعها القرآن الكريم وأمر الله بها نبيه الكريم في الدعوة إلى شرعة الله وإحقاق الحق ومحاربة الباطل أسلوب القصص وذكر أخبار السابقين على الناس، فقد جاء هذا الأمر من الله لنبيه في سورة الأعراف بعد ذكره قصة الرجل الذي استخدم علمه الذي آتاه الله إياه في الباطل فيقول جل شأنه لنبيه الكريم: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]، ويعلق د. صلاح الخالدي على هذه الآية قائلا: "تعقيب القرآن على قصة هذا الرجل الذي انسلخ عن علم الله، بالأمر للرسول صلى الله عليه وسلم بقص القصص، يدل على أهمية القصص عند الناس، وضرورتها لنشر الدعوة، وترسيخ معاني العقيدة، وضرب النماذج الإنسانية للمعاني التي يدعو إليها الدعاة" (مع قصص السابقين).

القرآن الكريم هو المحضن الأول الذي ينبغي أن تجذب إليه الأبصار والأفكار للسير على هداه فيتربى الإنسان على ما جاء به من أسس تسهم في بناء الفرد والمجتمع

فالقرآن الكريم هو المحضن الأول الذي ينبغي أن تجذب إليه الأبصار والأفكار للسير على هداه فيتربى الإنسان على ما جاء به من أسس تسهم في بناء الفرد والمجتمع، وليكون هذا الفرد في نفس الوقت قادرا على مواجهة ما يحيق به وأمته من أخطار تحاك لهم تحت جنح الخفاء.

ويغلب أسلوب القصة على طابع القرآن الكريم سواء في بناء العقيدة في النفس البشرية أو بضرب نماذج بشرية استقامت على منهج الله فوافقت بذلك الفطرة التي فطرها الله عليها أو بأخرى انتكست فكانت أضل من الأنعام، أو بعرض صور من صور الصراع بين الحق والباطل ومجالات أخرى كثيرة تناولها القرآن من خلال القصص، وقد أشار القرآن الكريم للأهداف المبتغاة من استخدامه للأسلوب القصصي لعلنا نتدبرها ونتفكر بها ونحن نقرأ هذه القصص وقد أشار إليها د. الخالدي في كتابه مع قصص السابقين في القرآن وهذه الأهداف:

الهدف الأول: التفكر وإعمال العقل وتدبر هذه القصص لأخذ العبرة والعظة منها لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].

الهدف الثاني: تثبيت الفؤاد على الحق، فقد قال تعالى: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، فالظروف التي مر بها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام كانت ظروفاً قاسية حرجة يحتاج بها المسلمون لما يواسيهم ويثبت من قلوبهم، والخطاب الرباني ليس حكراً على فترة معينة أو فئة مخصوصة بل هو موجه لكل متبع لهذا الدين، والظروف التي يمر بها المسلمون في أنحاء الأرض لهي ظروف طاحنة لذا هم أحوج ما يكون لمثبت ومواس لهم ، ولن يكون هناك أفضل من الوقوف على قصص السابقين والاطلاع على الظروف المشابهة التي مروا بها ونهاية الصراع فتثبت قلوبنا ونستشرف الأمل في المستقبل وإشراقة الفجر.

الهدف الثالث: العبرة لأولي الألباب وقد أشارت لهذا الهدف الآية الكريمة من سورة يوسف عليه السلام في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].

وسورة يوسف عليه السلام من القصص التي تُسلي قلب المكلوم وتثبت فؤاد المبتلى وتجلي هم المهموم، فجاء بدايتها: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] وختمها ربنا تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}، ففي البداية ذكرت الأسلوب وفي النهاية حددت الهدف التي تريده من هذا الأسلوب.

فالقرآن الكريم يبحر بنا وينقلنا إلى الماضي لنستخلص من حياة وتجارب السابقين العبرة إذ يعرض علينا نماذج عديدة من البشرية الغني منهم والفقير الصادق والكاذب والمؤمن والكافر، فنستخلص من تجاربهم العبر والمواعظ فنسير على خطى الذين اهتدوا ونخالف الذي ضلوا، ومما يضاعف أهمية هذا الأسلوب أنه يقصص علينا قصص بشر مثلنا وأن هذه النماذج سيكررها التاريخ؛ لأن البشر يشتركون في قوام الإنسانية وخواصها، وهذه العبرة هي لمن أعمل عقله وتفكر في سير السابقين، فيستفيد من تكرار هذه النماذج البشرية في صراعاتها بين الحق والباطل وبين أولياء الله وأولياء الشيطان عبر الأزمنة والأمكنة فينظر متفكراً مستبصراً ليعود ذلك عليه بالفوز والفلاح.

وتأتي قصة يوسف عليه السلام لتوحي لنا بأن حياة الفرد منا إنما هي رسالة وأمانة لا لهو ولا عبث  فما بين الجب وعرش الحكم مسيرة وأحداث طويلة تنطوي فيها الكثير من الآمال والآمال، وأن الحياة بها من التكاليف والفتن ما لا ينجو منه نبي مرسل ولا ولي مقرب، فسنتها تجري على البشر كلهم بلا تمييز ولا تفريق وأن كل نهاية مشرقة قد سبقها بداية محرقة فلا يتعجل الإنسان النتائج ولا يشترط حصاد ما زرع في حياته فقد يزرع هو ويقطف ثمار زرعه أجيال أخرى فالعبرة بما قدم لا بما نتج.

لا يشترط أن يكون الانتصار والتمكين في نفس الوقت والزمان الذي يبذل فيه أهل الحق من أوقاتهم ودمائهم، فربما يكونون هم جسر الوصول وسلم التمكين

فالنهايات في هذه الحياة الدنيا وإن كانت الغلبة في المحصلة النهائية للحق إلا أنه لا يشترط أن يكون الانتصار والتمكين في نفس الوقت والزمان الذي يبذل فيه أهل الحق من أوقاتهم ودمائهم، فربما يكونون هم جسر الوصول وسلم التمكين، فإن كان يوسف عليه السلام خرج من الجب عزيزا لمصر إلا أن ذلك لا ينفي أن يقضي صاحب الرسالة نحبه في فترة ما قبل أن يشهد النصر كما حدث مع بعض أنبياء بني إسرائيل، كما أن نموذج أصحاب الأخدود مثال حي على ذلك، فقد اقتضت المشيئة الربانية أن ينتهي دورهم في الوجود في اللحظة التي يتحرروا بها من عبودية العباد، فالوقت القصير بحساب البشر الذي عاشوه في ظلال الوحدانية كان كفيلاً أن يخلد ذكراهم في كتاب الله الخالد فيكونوا بذلك الآية التي تتلوها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تذكّرهم بأن طريق الحق مر صعب لا بد أن ترتبط همة صاحبه بالسماء متطلعا لما عند الله فهو خير وأبقى.

وتذكرنا قصة يوسف عليه السلام برسالتنا في هذا الوجود فلا نتثاقل عن أدائها مهما واجهتنا الخطوب، فيوسف الصدّيق لم تثن عزمه القيود، بل حرص على تبليغ رسالة ربه دون أن يختلق الأعذار للقعود عنها، فكان منارة الحق والنور في ظلمات السجن، حريص على أن يخرجهم من ظلمات وقيود العبودية والوثنية إلى نور الله وسعة فضله، فهو أشد حرصاً على تحرير العقول والقلوب من تحرير الأجساد من السجان، فكم من طليق بجسده عبد في فكره وقلبه وكم من أسير للجسد لكن روحه طليقة تعانق السماء شموخا وإباء.

يعرض علينا القرآن في قصص السابقين المحيط الذي كان يحيط بالأنبياء وإن كانوا صفوة البشرية ولهم ما لهم من العصمة إلا أن ذلك لا يجرد عوائلهم وذويهم من كونهم بشراً مثلنا تشملهم الرسالة والتكاليف كما أي بشر، فمنهم من يصدق ومنهم من يكذب بل وتصيبهم آفات وأمراض القلوب التي قد تصيب أي بشر، فهؤلاء أخوة يوسف تصيبهم الغيرة فيبطنوا الشر لأخيهم ويلقي كيدهم به في غيابات الجب مما يجعلنا ذلك نتريث ونترفق في أنفسنا ومن حولنا فلا نلقي ثوب القداسة والعصمة إلا على من أخبرنا الله بهم أنهم كذلك، فندرك أن كل بني آدم خطاء وأن الخطأ يغفر ويُتجاوز عنه ما لم يكن كفراً أو شركاً بالله.

نتعلم من قصص السابقين أن المجتمعات عرضة للأمراض كما البشر، فقد تنطمس فطرتها وتصاب بصيرتها بالغشاوة فتنقلب معاييرها وتنتكس قيمها

كما نتعلم من قصص السابقين أن المجتمعات عرضة للأمراض كما البشر فقد تنطمس فطرتها وتصاب بصيرتها بالغشاوة فتنقلب معاييرها وتنتكس قيمها، فتحارب الفضيلة في زمان معين بحجة الرجعية أو التخلف حينا وعدم الانفتاح والتحرر حيناً آخر، فما زج يوسف الصديق بالسجن إلا لفضيلته وتعففه، وما حورب إبراهيم عليه السلام إلا لاستنكاره ورفضه انتكاس الفطرة.

كما تذكرنا قصص السابقين أنه لا غنى لنا في هذه الحياة عن الدار الأخرى فإن بسطت لنا الدنيا وجهها وأقبلت علينا بمفاتنها ومباهجها لا تنسينا بأنها دار عبور لا قرار، وأن الرحيل عنها لا بد وإن طال بها البقاء، وأن جوار الله خير جوار فلا تغرنا عن حقيقتها المتقلبة وأن نحرص على حسن الخاتمة باللجوء إلى الله والبقاء في معيته فهذا سيدنا يوسف لا ينفك ويتذكر المآل في يسره وعسره سرائه وضرائه فما كان منه عليه السلام إلا أن يقبل على الله راجياً: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، فمهما ازدهرت الحياة وتنعمت لا يغني ذلك عن نعيم الآخرة واللحاق بركب الصالحين.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …