من المعروف عن أمة الإسلام أنها أمة وسط. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...} [البقرة: 143]. يقول الشيخ رشيد رضا في "المنار": "قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تقصير وتفريط، وكلُّ من الإفراط والتَّفريط ميْلٌ عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما" أهـ.
المسلم والوسطية في الإنفاق
إن المال هو عصب الحياة وقوامها من أجله يعمل العاملون ويجد المُجدون. لأهمية المال أعطاه الإسلام خصوصية خاصة وطالب المسلم بالوسطية والاعتدال في اكتسابه وفي إنفاقه.
ولأهمية المال نهانا الله تعالى أن نتركه في أيدي السفهاء يبددونه فيما لا طائل منه ولا منفعة.
قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:5].
والسّفيه: هو من يتصرف في المال بخلاف مُقتضى الشّرع والعقل بالتّبذير فيه والإسراف ولا يمكنه إصلاحه بالتّمييز والتّصرّف فيه بالتّدبير لخفة في عقله.
ولأهمية المال جعله الله تعالى من بين أهم الأمور التي يُسأل عنها المرء يوم القيامة "من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ"، ونهانا الله تعالى عن اكتنازه أو إضاعته وإتلافه.
* عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "لاَ تزولُ قدَمُ ابنِ آدمَ يومَ القيامةِ من عندِ ربِّهِ حتَّى يُسألَ عن خمسٍ: عن عمرِهِ فيمَ أفناهُ، وعن شبابِهِ فيما أبلاَهُ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وماذا عملَ فيما علِمَ" (رواه الترمذي).
إن الوسطية في الإنفاق التي أمرنا بها الإسلام تقع بين أمرين منهي عنهما شرعاً وهما (الإسراف والتبذير من ناحية) و (البخل والشح من ناحية أخرى).
أولاً: الإسراف
الإسراف هو: تجاوز الحد في الإنفاق دون منفعة ولا ضرورة والإخلال بالأولويات.
- قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
إن الإسراف المنهي عنه هو الإسراف بمفهومه الشامل في المال الذي هو عصب الحياة وزينتها، وفي الوقت الذي هو رأس مال الإنسان في حياته، وفي الماء الذي جعل الله تعالى منه كل شيء حي، وكذلك في المأكل والمشرب والملبس وحتى في المشاعر، وكل المباحات.
* عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "كُلوا واشرَبوا وتَصدَّقوا والْبَسوا ما لم يخالِطْهُ إسرافٌ أو مَخيَلةٌ" (رواه ابن ماجه).
- وجاء في "نهج البلاغة" أن الإمام علي رضى الله عنه كتب إلى عامله على البصرة قائلاً: "دع الإسراف مُقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدِّم الفضل ليوم حاجتك".
* وعن عثمان بن الأسود رضي الله عنه قال: "كنت أطوف مع مجاهد بالبيت فقال: لو أنفق عشرة آلاف درهم في طاعة الله ما كان مُسرفًاً، ولو أنفق درهمًا واحدًا في معصية الله، كان من المسرفين".
- وقيل لحاتم الطائي: لا خير في السَّرف، فأجابهم: بل لا سَرَف في الخير.
- وقال الطاهر ابن عاشور رحمه الله: "قيل في الكلام الذي يصحُّ طردًا وعكسًا: لا خير في السَّرف، ولا سَرَف في الخير" أهـ.
ثانياً: التبذير
التبذير فهو: الإنفاق فيما لا ينبغي حتى ولو كان مُباحاً.
قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:26-27].
* عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "كنا أصحاب محمد ﷺ نتحدّث أن التبذير: النفقة في غير حقه.
* وقال مجاهد : "لو أنفق إنسان ماله كله في الحقّ ما كان تبذيراً، ولو أنفق مُدّا في باطل كان تبذيراً".
* وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "لا تنفق في الباطل فإن المبذر هو المنفق في غير حق".
إن الباعث على الإسراف والتبذير هو جهل المرء بتعاليم دينه والغفلة عن طبيعة الحياة مما يجعله يُجاري السفهاء ثم يقعد بعد ذلك ملوماً محسوراً، يلومه الناس على سوء فعله ويتحسر هو على حال نفسه.
إن الباعث على الإسراف والتبذير هو جهل المرء بتعاليم دينه والغفلة عن طبيعة الحياة مما يجعله يُجاري السفهاء ثم يقعد بعد ذلك ملوماً محسوراً، يلومه الناس على سوء فعله ويتحسر هو على حال نفسه
ثالثاً: البخل
البخل هو: منع الواجب وحبس ما لا يجب حبسه عن مستحقه.
قال تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180].
من الملاحظ أن الآية الكريمة لم تحدد ما بخل به هؤلاء لأن كل نعمة يُؤتاها العبد واجبة فيها النفقة من جنسها مادياً كان أو معنوياً. فالمال نعمة- والعلم نعمة- والصحة نعمة- حتى المشاعر واجبة فيها النفقة لمستحقيها من الأهل ومن عموم المسلمين.
- قال بشر بن الحارث: "النظر إلى البخيل يُقسِّي القلب، ولقاء البُخلاء كرب على قلوب المؤمنين".
- وقالت أمُّ البنين أخت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما: "أفٍّ للبخيل.. لو كان البخل قميصًا ما لبسته، ولو كان طريقًا ما سلكته".
رابعاً: الشح
الشح هو: البخل مع زيادة الحرص.
وهذا ما رجَّحه الإمام القرطبي رحمه الله، حيث قال: "وقيل: إنَّ الشحَّ هو البخل مع حرص. وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أنَّ رسول الله ﷺ قال: " اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ علَى أنْ سَفَكُوا دِماءَهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحارِمَهُمْ" (صحيح مسلم).
- قال الإمام ابن القيم في (الوابل الصيب): "الفرق بين الشحِّ والبخل أنَّ الشحَّ: هو شدة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه. والبخل: منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه، وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله. فالبخل ثمرة الشحِّ، والشحُّ يدعو إلى البخل، والشحُّ كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحَّه، ومن لم يبخل فقد عصى شحَّه ووُقِيَ شرَّه، وذلك هو المفلح "وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الحشر: 9)" أهـ.
* عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "لا يجتَمِعُ غبارٌ في سبيلِ اللَّهِ ودخانُ جَهَنَّمَ في منخرَي مسلِمٍ، ولا يجتمعُ شحٌّ وإيمانٌ في قلبِ رجلٍ مسلِمٍ" (صحيح النسائي).
- قال الماوردي في (أدب الدنيا والدين): "الحرص والشحُّ أصل لكلِّ ذم، وسبب لكلِّ لؤم؛ لأنَّ الشحَّ يمنع من أداء الحقوق، ويبعث على القطيعة والعقوق".
إن البخيل والشحيح كلاهما يضن بنعم الله على نفسه وعلى غيره وهو بذلك يُعطل دورة المال في الحياة فتنقلب عليه بالحرمان في الدنيا وبالعذاب في الآخرة.
إن البخيل والشحيح كلاهما يضن بنعم الله على نفسه وعلى غيره وهو بذلك يُعطل دورة المال في الحياة فتنقلب عليه بالحرمان في الدنيا وبالعذاب في الآخرة
- قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34-35].
* عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "كان رسولُ اللهِ ﷺ يَتَعَوَّذُ من خَمْسٍ اللهم! إني أعوذُ بك من الجُبْنِ، والبُخْلِ، وسُوءِ العُمُرِ، وفتنةِ الصدرِ، وعذابِ القبرِ" (رواه النسائي).
نلاحظ هنا أن الحديث ذكر (الجُبْنِ، والبُخْلِ) فكليهما يؤدي إلى الآخر لأن الأخلاق الذميمة تجر بعضها بعضاً.
إن الجبان أحرص الناس على سلامة نفسه فتراه لا يصدع بحق، ولا يُضحي في سبيل حق، ولا يُقاتل من أجل حق. والبخيل يضِن بالمال فتراه لا ينفقه فيما أمره الله تعالى به، وكلاهما -الجبان والبخيل- يفوتهما من الخير الكثير، وكلاهما على خطر كبير.
وأخيراً أقول
إن المسلم إذا اعتمد الوسطية بمفهومها الشرعي في شئونه كلها لحصَّل من الخيرية التي يريدها له الله ذروتها وابتعد كل البعد عن الدونية التي ما خُلِق لها المسلم ولا خُلِقت له.
وأود أن أختم حديثي بما قاله الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- حيث قال: " العاقل يدبر بعقله عيشته في الدنيا، فإن كان فقيرًا، اجتهد في كسبٍ وصناعةٍ تكفُّه عن الذُّل للخلق، وقلل العلائق، واستعمل القناعة، فعاش سليمًا من مِنن الناس عزيزًا بينهم. وإن كان غنيًّا، فينبغي له أن يدبر في نفقته، خوف أن يفتقر، فيحتاج إلى الذُّل للخلق، ومن البلية أن يبذر في النفقة، ويباهي بها ليكمد الأعداء، كأنه يتعرض بذلك -إن أكثر- لإصابته بالعين.. وينبغي التوسط في الأحوال، وكتمان ما يصلح كتمانه، وإنما التدبير حفظ المال، والتوسط في الإنفاق، وكتمان ما لا يصلح إظهاره " أهـ.