لم يكن الإعلان الأمريكي الرسمي عن رفع حالة عدم الشرعية القانونية عن المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة عام 1967م، بالمفاجئ، أو استثناءً من السياق العام لسياسات الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة دونالد ترامب.
فبرنامج ترامب الانتخابي وسلوك إدارته في السنوات التالية لانتخابه قبل ثلاث سنوات، لم يخفِ أي شيء، ولم يدَّعِ أي شيء بخلاف ما قام به؛ لكي نُفَاجأ بأي شيء؛ حيث تم بالفعل الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، وبضم الجولان السورية المحتلة عام 1967م، وأخذ خطوات أخرى غير ذلك لدعم الموقف الصهيوني.
وبالتالي؛ فإن هناك أمرَيْن غير مقبولَيْن عند تناول أحداث المرحلة فيما يخص القضية الفلسطينية، التي بات مصيرها على المحك فعلاً لا قولاً، الأمر الأول، أحاديث البكائيات، والأمر الثاني، هو الإعلانات السياسية بالذات من سلطة أوسلو التي شاخت وماتت إكلينيكيًّا، بل وماتت حقيقةً، بأنه "سوف يتم بحث الخطوات المقبلة".
فلا الصهاينة ولا الإدارة الأمريكية أخفوا أي شيء منذ اليوم الأول، بل إن ترامب كان شديد الوضوح في مواقفه وتصريحاته خلال الحملة الانتخابية في كل الأمور المطروحة على أجندة السياسات الأمريكية في المنطقة وفي العالم، وتعبير "صفقة القرن" التي تتم في إطارها هذه الخطوات الأمريكية الواسعة، مطروح ومعروف منذ سنوات.
وكان من باب أَوْلى في حينه، ان تجتمع كل الأطراف الفلسطينية صاحبة الشأن، وصاحبة القوة والقدرة على الفعل السياسي والقانوني والعسكري، من أجل إعداد بدائل حقيقية وفعَّالة.
لكنَّا للآن؛ لم نجد من السلطة الفلسطينية – التي هي صاحبة الشرعية القانونية في تمثيل الفلسطينيين والدفاع عن حقوقهم – سوى خيارٍ أبله مكرَّر – ثبت على أقل تقدير أنه بلا جدوى من مرَّات سابقة – بالذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لكي يدينوا الولايات المتحدة صاحبة حق النقض "الفيتو" في المجلس (!!) وكالعادة، سوف تبطِل واشنطن القرار الفلسطيني وتنتهي "الزَّفَّة" الإعلامية والدبلوماسية على حد التعبير المصري الدارج.
لم نجد من السلطة الفلسطينية – التي هي صاحبة الشرعية القانونية في تمثيل الفلسطينيين والدفاع عن حقوقهم – سوى خيارٍ أبله مكرَّر – ثبت على أقل تقدير أنه بلا جدوى من مرَّات سابقة – بالذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لكي يدينوا الولايات المتحدة صاحبة حق النقض "الفيتو" في المجلس (!!) وكالعادة، سوف تبطِل واشنطن القرار الفلسطيني وتنتهي "الزَّفَّة" الإعلامية والدبلوماسية على حد التعبير المصري الدارج
الأكثر أذىً في الأمر، أن الإعلام الفلسطيني صاحب الاهتمام الأصيل بأحوال الكيان الصهيوني الداخلية، لا يفتأ يؤكد، ويقسمون على ذلك، بأن الكيان "في مرحلة ضعف" لأنه يواجه "أزمة سياسية داخلية طاحنة" منعت تشكيل الحكومة، و"أن هناك انقسامات مروِّعة بين الأحزاب السياسية"، وأن.. وأن.. بينما الحقيقة، أن الخطط الصهيونية في المجال الاستراتيجي المتعلق بالأرض بالأساس، تسير وفق مخططها المرسوم.
هذا التصدير الخاطئ لصورة ذهنية سلبية عن كيان ضعيف متداعٍ، قلَّصت كثيرًا من إدراك الكثير من الأطراف لحقيقة الموقف، وبالتالي؛ لم يقدموا على أي شيء. أي: خَدَّرتهم !!بطبيعة الحال؛ فإن الدعم الأمريكي فارق، ولكن لا يمكن بحال القول إن المشروع الصهيوني كان مُعَطَّلاً من قبل ترامب، حتى خلال إدارتَيْ باراك أوباما التي كان لها موقفٌ مختلف إزاء هذه الأمور، ولكن الشاهد أن معدلات البناء في المستوطنات اليهودية في القدس والضفة الغربية، ومشروع القدس الكبرى الذي من المخطط أن يضم عشرين بالمائة من مساحة الضفة؛ كانت تسير بمعدلات هي الأكبر منذ احتلالها عام 1967م.
وبالتالي؛ فإنه لا مجال للحديث عن أية وقفات تعبوية مطلوبة للتعامل مع هذا القرار أو ذاك؛ لانها كلها – نكرِّر – معروفة وموجودة في المجال الإعلامي العام، ومنذ سنوات، بل إنها كلها مخططات موضوعة حتى من قبل حرب يونيو 1967م.
في المقابل، لا نزال نجد أن حصار السلطة على قطاع غزة ربما أصعب من الحصار الصهيوني نفسه، ولا يزال الانقسام الفلسطيني قائمًا، وبينما يزور نتنياهو "جوش عتصيون"، ويتبجَّح بما حققوه من انتصارات وقتية؛ لا تزال السلطة والفصائل الفلسطينية "تبحث" في عقد انتخابات جديدة، ولا أحد يعرف أين ذهبت قرارات محمود عباس التي أعلنها وقت موضوع ضم القدس، والتي أهمها وقف التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني؛ حيث لا يزال التنسيق الأمني قائمًا ووثيقًا.
ولعل هذه النقطة هي من أهم ما يمكن، لأنها بالفعل، هي العائق الأكبر أمام الحل الوحيد ربما لوقف كل هذا الذي يحدث على الأرض، وهو المقاومة الشعبية.
منذ سنوات طويلة، يتحدث الفلسطينيون عن هذا الخيار، ولكن لاعتبارات عديدة، أهمها السلوك الأمني للسلطة الفلسطينية في الضفة، والتنسيق الأمني مع الاحتلال، لم يتم تفعيل هذا الخيار في الضفة، بينما استطاع قطاع غزة القيام به بأكثر من صورة، كانت ولا تزال أهمها مسيرات العودة الأسبوعية التي بدأت قبل أكثر من عام ونصف (يوم 30 مارس 2018م، في ذكرى يوم الأرض) ودفع فلسطينيو القطاع المحاصَر فيها حتى الآن مئات الشهداء وآلاف المصابين.
منذ سنوات طويلة، يتحدث الفلسطينيون عن خيار المقاومة الشعبية، ولكن لاعتبارات عديدة، أهمها السلوك الأمني للسلطة الفلسطينية في الضفة، والتنسيق الأمني مع الاحتلال، لم يتم تفعيل هذا الخيار في الضفة، بينما استطاع قطاع غزة القيام به بأكثر من صورة، كانت ولا تزال أهمها مسيرات العودة الأسبوعية التي بدأت قبل أكثر من عام ونصف
ولعل هنا لابد من الإشارة إلى أن نجاح غزة في تبني خيارات مستقلة في مواجهة الكيان الصهيوني، سواء على المستوى العسكري أو السياسي، برغم الحصار المالي والسياسي والإغاثي حتى الذي يفرضه الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية على القطاع، يقول بأنه بالفعل، يُعتبر التنسيق الأمني هو العقبة الوحيدة أمام إطلاق خيار المقاومة الشعبية بأي صورة من الصور .
ولعل أهمها هو نقطة أمن المستوطنات، وهو ربما من أهم مفاتيح التحرُّك المطلوب في هذا الصدد، ونذكر جميعًا معاناة مستوطنات غزة وقت أن كانت محتلة، وكان ذلك أحد أهم أسباب قرار شارون بإخلاء قطاع غزة من قوات الاحتلال وأي وجود سُكَّاني صهيوني.
إن خيار المقاومة الشعبية، هو الوحيد القادر على تحقيق المعادلة الصعبة، فهو يحجِّم قدرة الكيان الصهيوني على استخدام القوة الغاشمة في الرد، في مقابل أنه يحدِث فجوة ثقة كبيرة لدى الصهاينة في أنهم ماضون في مشروعهم من دون معوِّقات.
ولنا في مسيرات العودة عبرة في ذلك؛ حيث إنها، مع محافظتها على انتظام الوتيرة، والقدرة على الحشد، من أكثر الأمور التي أثارت قلق الحكومة الصهيونية خلال الفترة الماضية.
ونعلم جميعًا أن الحكومة الصهيونية بذلت الكثير من الجهد الدبلوماسي والأمني لوقفها، وربما قلقها منها أكثر من قلقها من إطلاق الصواريخ؛ حيث إن إطلاق الصواريخ، يمنح الصهاينة مبررًا أمام العالم الخارجي، بينما التَّعرُّض لمسيرات العودة السلمية الطابع يؤذي الكيان الصهيوني بشدَّة، برغم تنفُّذ اللوبيهات اليهودية في مراكز صناعة القرار الكبرى في العالم الغربي.
كما أن خيار المقاومة الشعبية يُحيي من جديد في المجال الإعلامي والسياسي العالمي، أمورًا تُعتَبر من أبرز الأشياء التي لا يريدها الصهاينة، بل وتُعتَبر صُلب المشروع الصهيوني، وهي الحقوق الفلسطينية في الأرض المحتلة، وفي العودة ، سواء إلى أراضي الـ48 أو الـ67.
وفي الأخير؛ فإن كاتب هذه السطور تعمَّد عدم الإتيان على أي ذكر للأنظمة والحكومات العربية في هذا الذي يجري لأكثر من سبب.
الأول، هو الحال المخزي الذي وصلت إليه هذه الحكومات كافة، وبات التطبيع العلني قائمًا من دون أي خجل أو حياء، وفي كل المجالات، بما فيها مجالات استراتيجية، مثل الأمن، ومجالات شديدة الأهمية لأنها تمس المساحة الشعبية، مثل التطبيع الرياضي والثقافي.
بل وأصبح الكيان الصهيوني حليفًا لبعضها في مواجهة مهددات أخرى للأمن القومي لهذه الأنظمة والحكومات، كما الحال فيما يخص بعض دول الخليج في صراعها مع إيران.
وعلى أبسط تقدير؛ فإن انشغال الدول العربية في الأصل بقضايا ومشكلات لم تعد القضية الفلسطينية ضمن أولوياتها، وانسحاق الشعوب العربية تحت وطأة أزمات معيشية وأمنية، لا يقول بأي جدوى أو جديد في الحديث عن دور عربي ما فعَّال وقادر فيما يجري.
الأمر الثاني، هو أنه، ووفق كل قواعد العمل السياسي الصحيحة؛ فإنه ما لم يتقدَّم الفلسطينيون خطوة على الأرض؛ فلن يخطوها آخرون، وذلك لسببَيْن؛ الأول، أن الفلسطينيين هم أصحاب الشأن، ووفق قواعد المنطق؛ لن يكون أحدٌ ملكيًّا أكثر من الملك نفسه، مع تحول القضية الفلسطينية من قضية أمة إلى قضية شعب من هذه الأمة في ظل ظروف نعملها جميعًا.
والسبب الثاني، هو الأزمة الفلسطينية الداخلية وسلوك السلطة، فمن غير المنطقي أن نطالب حكومات عربية متهمة بالتطبيع، بل هي تقوم بالتطبيع فعلاً، أن تبادر بأمور؛ أصحاب الشأن أنفسهم فيهم المتقاعس عنها.