إن أكثر ما يشغل ذهن الآباء هو أسلوب تربيتهم لأبنائهم. إن الآباء يتحيرون بين ما ورد في التراث الإسلامي من ضوابط وأحكام، وبين النظريات والفلسفات التربوية الحديثة، وبين ما تربوا هم عليه من عادات وتقاليد وأعراف فترى الآباء ينظرون بعين على ما جاء في التراث من ضوابط وأحكام، وعينهم الأخرى على ما ورد في النظريات التربوية والفلسفية الحديثة من أراء ورؤى، والقلب يحن ويميل إلى ما تربى عليه الفرد من عادات وتقاليد وأعراف.
إن ما يُنهي هذه الحيرة ويبعث في قلوب الآباء الطمأنينة هو التأكيد على أن ما جاء في التراث الإسلامي من ضوابط وأحكام تربوية يُعَد منهجاً مضمون المصدر، متكامل الأركان، محمود العاقبة، تخرَّج من خلاله عظماء ملؤوا الدنيا علماً وعملاً، منهم من لو أن أحدنا أنفق مثل أحُد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه.
إن بعض الآباء قد يسمعون هذا الكلام بأذن، والأذن الأخرى تسمع لمن ينادون بالحداثة والتطوير في أساليب التربية ويستشهدون بمقولات وآثار التبس عليهم فهمها وبها يلبسون على الناس الفهم والتطبيق، مثل:-
- أولادكم خلقوا لزمان غير زمانكم فلا تقصروهم على عاداتكم.
- لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.
- أدبوا أولادكم بغير أدبكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم.
- خلقوا أولادكم بغير أخلاقكم، فقد خلقوا لزمان غير زمانكم.
- ربوا أبناءكم واعلموا أنهم خلقوا لزمان غير زمانكم.
إن بعض الآباء حين يسمعون هذه المقولات قد يجعلونها رخصة ومُسَوِّغاً لترك أبنائهم لكي يتولى تربيتهم دعاة التحضر وأصحاب مدارس ونظريات التمدن الذين يروِّجون للحياة الحديثة بما فيها من عادات وتقاليد وسلوكيات وأخلاقيات ما أنزل الله بها من سلطان، وورائها من ينمقونها ويُروجون لها بل ويجعلونها في متناول الجميع وبأبخس الأثمان.
إن دعاة التحضر وأصحاب مدارس ونظريات التمدن يجعلونها في متناول الجميع وبأبخس الأثمان لأنهم يُدركون أن ثمنها الحقيقي هو سلخ الجيل بكامله من القيم والأخلاقيات والمُثل والآداب التي أمرهم دينهم بها.
- إن كل هذه المقولات السابقة إنما هي كلمة حق يُراد بها باطل لأنه مهما تغير الزمان ومهما تبدلت الأحوال ومهما حدث في العالم من تطور فإن هناك من الضوابط والقيم والمبادئ التي لا يجب أن يتخلى عنها الإنسان في أي عصر من العصور ولا في أي جيل من الأجيال.
مهما تغير الزمان ومهما تبدلت الأحوال ومهما حدث في العالم من تطور فإن هناك من الضوابط والقيم والمبادئ التي لا يجب أن يتخلى عنها الإنسان في أي عصر من العصور ولا في أي جيل من الأجيال
* عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: " إِنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صالِحَ الأَخْلاقِ" (رواه أحمد).
من هذا الحديث ندرك أن الإسلام لا يرضى ولا يقبل بأن تنتقص الأخلاق ولا تتجزأ ولا أن تختزل في أي زمن من الأزمان مهما تباعدت الأزمان، ولا في أي جيل من الأجيال مهما اختلفت الأجيال .
* ما دخل العلم والتطور بالتخلي عن الصدق والأمانة والعفة والحياء!
* ما علاقة التكنولوجيا الحديثة بالتفريط في الأدب والأخلاق والعزة والكرامة والنخوة والشهامة!
* ما الرابط الذي يربط بين التكنولوجيا الحديثة وبين الكذب والخيانة والتبرج والسفور!
* ما صلة ما يشهده العالم من طفرة علمية بالظلم والاستبداد ومصادرة الحريات وتكميم الأفواه وهضم حقوق الأقليات...الخ!
- إن كل ما ذكر من مبادئ سامية وصفات نبيلة تعد من الثوابت التي لا يجب ولا ينبغي أن يحيد عنها أي جيل قيد أنملة وإلا كان كمن يلف الحبل حول عنقه فيقضي على نفسه، فلا هو يحفظ كيان نفسه ولا هو يستمتع بما توصلت إليه البشرية من تطور.
لذلك أقول
* ربوا أبناءكم على أن يدوروا مع الزمان حيث دار ولكن بعد التأكد من غرس قيم الإسلام ومبادئه فيهم أولاً .
* لا تجعلوا تغير الزمان سبباً في تخليكم أو حتى تقصيركم في غرس قيم الإسلام ومبادئه في أبنائكم.
* خذوا بكل الأسباب وجربوا كل الأساليب والوسائل الشرعية في تربيتكم لأبنائكم واصبروا عليهم لكي تعذروا أنفسكم بين يدي الله تعالى.
* ضعوا في الاعتبار أن ذلك كله جهد مأجور وأن هذا الجهد لن يضيع سُدَى ولن يكون هباءً منثوراً طالما توفر فيه الإخلاص وحُسن التوجه.
الضالة المنشودة
إن من يريد أن يَهدأ حاله ويَطمئن قلبه وتَسكن جوارحه ويجد ضالته ويعرف الأسلوب الأمثل للتربية بصفة عامة ولتربية الأبناء بصفة خاصة عليه أن يهتدي بهدي النبي ﷺ ولا يحيد عنه قيد أنملة.
* عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ أتى النبيَّ ﷺ بكتابٍ أصابه من بعضِ أهلِ الكتابِ فقرأه على النبيِّ ﷺ قال فغضب وقال: "أتَتَهوَّكون فيها يا ابنَ الخطابِ والذي نفسي بيدِه لقد جئتُكم بها بيضاءَ نقيَّةً لا تسألوهم عن شيءٍ فيخبرونكم بحقٍّ فتكذبونَه أو بباطلٍ فتُصدِّقونه والذي نفسي بيدِه لو أنَّ موسى كان حيًّا ما وسِعَه إلا أن يَتبَعني" (البداية والنهاية بإسناد صحيح).
قال أبو عبيدة: معناه أمُتَحَيِّرونَ أنتم في الإسلام حتى تأخذوه من اليهود؟
وقال ابن سيده؛ يعني أمتحيرون؟
وقال الجوهري: التَّهَوُّكُ مثل التَّهَوُّر، وهو الوقوع في الشيء بقلة مُبالاة وغير رَوِيَّةٍ.
من هنا يجب علينا ألا نتطلع إلى قيم ومبادئ ونظريات ومناهج وفلسفات الغير التي أُعدت في بيئة غير بيئتنا وظروف غير ظروفنا بل ولغاية غير الغاية التي ننشدها لأبنائنا حتى ولو كان هذا الغير ديناً سماوياً آخر.
لابد وأن نكون على يقين أن ما تحت أيدينا من ضوابط وأحكام شرعية هي النهج الصافي الرقراق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأن نكون على يقين أيضاً أنه لا يصلح حال آخر هذه الأمة إلا ما صلح به حال أولها.
يجب علينا ألا نتطلع إلى قيم ومبادئ ونظريات ومناهج وفلسفات الغير التي أُعدت في بيئة غير بيئتنا وظروف غير ظروفنا بل ولغاية غير الغاية التي ننشدها لأبنائنا حتى ولو كان هذا الغير ديناً سماوياً آخر
ضوابط تربوية لابد من مراعاتها والسير عليها
1- يظل الناس على خيرٍ ما داموا يتأدبون بأدب السلف رضوان الله عليهم، ويأخذون بهديهم، ويسيرون على طريقتهم، حيث كان السلف يأخذ صغيرهم عن كبيرهم، ومتعلمهم عن عالمهم، بطيب نفس ونبل سريرة، وفطرة على الخير جبلت، وفي ظله ترعرعت.
* قال الإمام الذهبي -رحمه الله- في "طبقات الشافعية": "بلغنا أنًّ أبا داود كان من العلماء حتى إن بعض الأئمة قال: كان أبو داود يُشبه أحمد بن حنبل في هديه ودله وسمته، وكان أحمد يُشبه في ذلك وكيع، وكان وكيع يشبه في ذلك بسفيان، وسفيان بمنصور ومنصور بإبراهيم، وإبراهيم بعلقمة، وعلقمة بعبد الله بن مسعود، وقال علقمة: كان ابن مسعود يشبه بالنبي ﷺ في هديه ودله" أهـ.
2- على الآباء أن يُدركوا أن الهدف الأساسي من التربية هو إيجاد الشخصية السَّوية التي تمتلك نسباً متفاوتة من الأخلاق لها حدودها القصوى وحدودها الدنيا ، فالإيمان يزداد وينقص، غير أنها لا تنتكس انتكاسة تضيع معها القيم، وتُهمل المبادئ، وتُخترق العادات والأعراف الصحيحة المتعارف عليها بين الناس.
3- لا بد وأن يفهم الآباء أننا حين نتعامل مع الأبناء فنحن نتعامل مع كيان بشري غض مليء بالمشاعر المُرهفة والأحاسيس والرغبات والمتطلبات التي تبحث عمن يفهمها ويحتويها ويُجيد قيادتها وتوجيهها، وليس قوالب جامدة تؤمر فتطيع.
لا بد وأن يفهم الآباء أننا حين نتعامل مع الأبناء فنحن نتعامل مع كيان بشري غض مليء بالمشاعر المُرهفة والأحاسيس والرغبات والمتطلبات التي تبحث عمن يفهمها ويحتويها ويُجيد قيادتها وتوجيهها، وليس قوالب جامدة تؤمر فتطيع
4- من أهم واجبات الآباء أن يستوعبوا استيعاباً تاماً أن الطفل كيان بشري يبحث عن إشباع مُتطلباته المعنوية من حب وحنان وتقدير أكثر من بحثه عن إشباع متطلباته المادية التي من الممكن أن يرضى منها باليسير.
5- على الآباء أن يوقنوا أنه ليس هناك ما هو متفق عليه في السلوك البشري، فليس بالضرورة أن الأسلوب التربوي الواحد تتشابه نتائجه، حتى ولو كان هذا الأسلوب التربوي يُستخدم بين أبناء الأسرة الواحدة .
6- العنف في التربية قد يخمد مظاهر المشكلة لفترة تقصر أو تطول ولكنه لا يقضي عليها بل يجعلها تتحين الفرصة المناسبة للانفلات والثأر والانتقام ولو بعد حين.
7- يجب على الآباء أن يكونوا قدوة صالحة ومثلاً يُحتذى لأبنائهم، ففاقد الشيء لا يُعطيه، وكما قيل: "لا يستقيم الظل والعود أعوج". جاء في اللآلئ المنثورة للزركشي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "الناسُ بزمانِهم أشبهُ منهم بآبائِهم".
8- على الآباء ألا ينسوا قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
- ويوقنوا أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
- ويتأكدوا أن الانضباط السلوكي والأخلاقي لا يُوَرَّث فليس بالضرورة أن صلاح الآباء يترتب عليه صلاح الأبناء.
وختاماً أقول
* عن مُطرف بن عبدالله رضي الله عنه قال: "عقول الناس على قدر زمانهم" (عيون الأخبار لابن قتيبة).
- اغرسوا في أبنائكم قيم الإسلام الفاضلة بما فيها من الهدي النبوي الشريف، ومكارم الأخلاق، والعُرف الصحيح الذي لا يتعارض مع الشرع ثم أفسحوا لهم المجال لكي ينهَلوا من علوم عصرهم ما استطاعوا.
- لا تحدوا من نشاط أبنائكم، ولا تعرقلوا انطلاقهم، ولا تعوقوا خطواتهم، ولا تسفهوا آراءهم ولكن راقبوهم عن بُعد فلا يفلتوا من تحت بصركم، وانصحوهم بلطف وبحكمة ورَوِيَّة حتى لا تجدون منهم نفوراً ولا جموحاً ولا صدوداً وإعراضاً .
- لا تجبروا أبناءكم على الفضائل مرة واحد حتى لا يُعْرضُوا عنها مرة واحدة .
- تصابوا لأبنائكم، داعبوهم ولاعبوهم، احتضنوهم حتى يشبعوا من أحضانكم، أشعروهم بدفء حبكم لهم وارووهم من نبع حنانكم، واغتنموا فترة وجودكم معهم ووجودهم معكم.
- إن تصابي الآباء وتبسطهم وتعبيرهم عن حبهم لأبنائكم يجعل منهم أنفس سوية وشخصيات قوية على عكس ما يعتقد كثيرون.
- إن من يشكون مُر الشكوى من أبنائهم إنما يكون ذلك نتيجة بخلهم عليهم بالمشاعر الجيَّاشة، ونتيجة كتمان حبهم وعاطفتهم تجاه أبنائهم.
* عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: "كان رَسولُ اللهِ ﷺ يَأخُذُني فيُقعِدُني على فَخِذِه، ويُقعِدُ الحَسَنَ عَلى فَخِذِه الآخَرِ، ثُمَّ يَضُمُّهما، ثُمَّ يَقولُ: اللَّهمَّ ارحَمْهُما فإنِّي أَرحَمُهما " (صحيح البخاري).
* عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي فجاء الحَسَنُ والحُسَينُ أو أحدُهما فركِب على ظهرِه فكان إذا رفَع رأسَه قال بيدِه فأمسَكه أو أمسَكهما قال نِعْمَ المَطِيَّةُ مَطيَّتُكما" (رواه الهيثمي في مجمع الزوائد بإسناد حسن).
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74]