من حقِّ الأحزاب أنْ تتأسّس على مرجعياتٍ تنسجم مع الخصوصية الدّينية والثقافية لشعوبها، ومنها المرجعية الإسلامية، إلاّ أنّه لابدّ من التحذير من خطورة الخلط بين نسبية المعرفة في فهم الإسلام ومحدودية التجربة البشرية في تمثّله وقَطعية وكمال المُراد الإلهي من الدّين، وخاصّة في التجربة السّياسية، التي لا تخضع إلى النّصوص القطعية والأحكام الثابتة، بل تستند إلى القواعد الكلّية والمبادئ العامة والمقاصد الكبرى، إذ السّياسة اجتهادٌ بشريٌّ في مساحة النّصوص، وفي مندوحة المتغيّرات، وفي فسحة المسائل المسكوت عنها.
ومهما كان الحزبُ على درجةٍ من الهويّة الإسلامية فإنّه يظلُّ اجتهادًا بشريًّا ناقصًا، ولا يجوز أن يُضفَى عليه ولا على أتباعه قداسة الدّين وكماله، وبالتالي فإنّ حديثنا يتّجه إلى ضرورة فصل الدّين عن الصّراعات الحزبية والتحذير من توظيفه فيها، وليس إلى فصل الدّين عن السّياسة وإقصائه من الدولة ومن الحياة، مع التمييز بين مشروعية نقد الممارسات البشرية للإسلاميين وخطورة نقد المرجعية الإسلامية التي يستندون إليها.
ومع ذلك، فإنّ الأحزاب التي تُسمّى بالإسلامية بحاجةٍ إلى البحث عن شرعيةٍ جديدة، والكفّ عن الاختباء وراء الشّرعية الدّينية، والتي كانت تمثّل قوّةً ناعمة لها، ولابدّ من الاعتراف بأنها ليست الممثل الشرعي والوحيد للإسلام، للفرق بين الدّين الإلهي الكامل والتديّن البشري القاصر، وأنها لا تمثّل إلاّ تفسيرًا إيديولوجيًّا له، ولا يمكنها أن تحتكره لنفسها، ولا يُقبل منها أن تقحمه في الصّراعات الحزبية والمنافسات الانتخابية مع شركائها في الدّين والوطن.
وقد أثبتت التجارب أنها ليست في مستواه الحقيقي: فهمًا واستيعابًا وسلوكًا، ولم تقدّم الأنموذج المقنع والمغري به، وأنّ موجة التديّن الشعبي العام قد تجاوزت قدرات التديّن الحركي والتنظيمي والإيديولوجي لهذه الجماعات كمًّا ونوعًا، وأنّ من عوامل القوّة الذاتية للإسلام تحوّله من حالةٍ تنظيمية إلى ظاهرةٍ اجتماعية وانتشارٍ مجتمعي، وأنّ حاجة النّاس الآن لا تتوقف على الحاجة إلى التديّن، بل الحاجة الآنية اليوم هي تحقيق التنمية وصناعة النهضة وبناء الحضارة، والاستجابة إلى الهموم اليومية للمواطن، والإجابة عن الإشكالات الحقيقية لما تعترضه في الحياة، وذلك الدّين القيّم، كما قال صلى الله عليه وسلم: “أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ..”.
ذلك أنّ تضخّم الدور الدّيني لها كان مقبولاً ومستساغًا في مرحلة الصّحوة في القرن الماضي، والتي كانت تغلب عليها عمومية الشّعارات وظاهرية النّصوص، إلاّ أنّ حتمية الذهاب إلى التخصّص الوظيفي هو الاستحقاق التجديدي لها في مرحلة النّهضة في القرن القادم، والتي يجب أن تغلب عليها دلالات النّصوص ومقاصد الشريعة، تناغمًا مع الحقيقة النّصية في الحديث النبوي الشّريف: “إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها أمر دينها”، والذي يكون عبر تكامل المسار السياسي على مستوى خط الدولة بواسطة الأحزاب السياسية، مع المسار الاستراتيجي على مستوى خطّ المجتمع بواسطة المجتمع المدني التخصّصي. وهو ما يتطلّب ثورة مفاهيمية وتأصيلية لهذا التكييف التاريخي مع استحقاقات هذه المرحلة، وتحديدًا: المواءمة بين القيم الإسلامية والقيم المعاصرة، مثل: الديمقراطية والحرّية وحقوق الإنسان والمواطنة ومدنية الدولة.. وغيرها.
إنّ ما وقع لما يسمّونه بتيار الإسلام السياسي من خيباتٍ وانكسارات وصدمات وانقلابات وانقسامات أحدث زلزالاً فكريًّا ومفاهيميًّا مدوّيًّا، وبقدر ما يضع الجميع في واقعية التجربة البشرية لهذه الحركة الإسلامية، بعيدًا عن النظرة المثالية والتقديسية لها ولرموزها، إلاّ أنّ ما وقع لها ما هو إلاّ مجرّدُ إيذانٍ بدخولها في مرحلةٍ مختلفةٍ، وانتقالها إلى طورٍ جديد، وهي في مخاضٍ لبعثٍ آخر، تنسجم فيها سُنَّة التجديد مع الحتمية النّصية، بالانتقال من مرحلة الصّحوة إلى مرحل النهضة عبر انتقال الفكرة من المجتمع إلى الدولة، كما يؤكّد ذلك مرارًا وتكرارًا فضيلة الدكتور عبد الرزاق مقري رئيس حركة مجتمع السّلم.
وذلك بسقوط النموذج الكلاسيكي للحركة الإسلامية، والذي وصل إلى خطر التمركز على الذات وتقديس التنظيم ونرجسية الأشخاص على حساب تقديس المبادئ وسموِّ الأفكار وعظمة المشروع، وقد انغلقت على الإيديولوجية الضيّقة والتنظيم المغلق والقيادة المركزية التقليدية، معتمدةً على الماكنة التنظيمية في التعبئة عبر الشّحن العقائدي الدّيني والهوياتي، مستثمرةً في فشل الأنظمة في التنمية وفي خصومتها مع الدّين وفي شرعيتها المعطوبة وفي غياب عدالتها الاجتماعية.
ومن المراجعات النقدية الجدّية للحركة الإسلامية المعاصرة هو الانتقال من التنظيم الهرمي الشّمولي إلى التنظيم الشبكي الرّسالي، ما يفتح المجال للتجديد الإرادي والواعي بالتسليم بأنّ وحدة المشروع لا تعني بالضرورة وحدة التنظيم، وبالتالي توسيع دائرة الولاء، من الولاء للتنظيم الإيديولوجي الضيّق إلى الولاء للمشروع المجتمعي الأرحب، وبالتالي توسيع (النّحن) والخروج السّريع من الفكر الطائفي أو الفئوي، والانتباه إلى خطورة الانتقال المريع من الدعوة إلى الله إلى الدعوة إلى التنظيم.
وقد ذهبت حركاتٌ إسلامية بكلّ جسارةٍ فقهية وشجاعةٍ فكريةٍ إلى هذا النوع من المراجعات النقدية العميقة والإرادية، بالتنظير والتنفيذ للتخصّص الوظيفي، بتوزيع وإدارة وظائفها الأساسية، والذهاب الآمن إلى مرحلة ما بعد التنظيمات الشّمولية، بتركيز الوظيفة السياسية في الحزب السياسي المدني البرامجي من أجل التمكين له في الدّولة، وتركيز الوظائف الاجتماعية والمجتمعية في المؤسسات المدنية، والتمكين للدّين (الهوية والقيم والفكرة الإسلامية) في المجتمع.
وهي التحوّلات التي تجعل الحالة الإسلامية السياسية، ومرحلة ما بعد الإسلام السياسي ليست مجرد أطروحةٍ جدليةٍ عقيمة فقط، بل مشروعًا جديدًا وجدّيًّا، إنّ التبشير بمرحلة ما بعد الإسلام السياسي التقليدي سيتحوّل إلى ميلادٍ جديدٍ لإسلامٍ سياسي برؤيةٍ تجديدية تنسجم مع الحتمية النصية، تُخرج الدّين من الصراع السياسي والتنافس الانتخابي، وتتّجه بالأحزاب ذات المرجعية الإسلامية إلى الاحترافية في العمل السياسي، بالخروج من فقه الجماعة إلى فقه المجتمع، ومن فقه الدّعوة إلى فقه الدّولة، ومن الإيديولوجيا إلى التنمية، ومن مبدئية الصّحوة إلى واقعية النّهضة، ومن الصّراع العدمي إلى التعاون على الخير مع الغير.
إنّ الإسلام ليس مجرد شعائر تعبّديةٍ فرديةٍ بين العبد وربّه، بل هو كذلك مادةٌ ثوريةٌ ضدّ الظّلم والفساد والاستبداد، إن التديّن الشّعبي العام أصبح يتجاوز القدرات التنظيمية للحركة الإسلامية، وهذا التيار ينجذب -طوعًا أو كرْهًا- إلى العمل السياسي، والقبول بقواعد العملية الديمقراطية، والعمل على التغيير السّلمي والإصلاحي، بعيدًا عن الأطروحات التقليدية للتغيير الجذري والشمولي للتنظيمات المتطرّفة، إنّ حتمية: الإسلام حضارة الغد والمستقبل لهذا الدّين، غير مرتبطة بالضرورة بالتنظيمات التقليدية له، والتي تفرض عليها التحوّلات المتسارعة إمّا التجدّد أو التعدّد أو التبدّد.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- الشروق الجزائرية