عندما يتحوّل ذكر الموت إلى حياة

الرئيسية » حصاد الفكر » عندما يتحوّل ذكر الموت إلى حياة
death

النّفس بطبعها تميل إلى الغفلة وتركن إلى الدّنيا، وتنسى الغاية والمصير، ولهذا فهي تحتاج إلى وعظ وتذكير، حتى لا تستمرّ معها الغفلة فتمرض ويقسو معها القلب وربّما يموت.. ولعلّ من أكثر ما ينفع النّفس لتصلح وتستقيم، ذكر الموت والرّحيل، من حين إلى آخر، ومَن تأمّل آيات القرآن الكريم يجد أنّه لا يكاد يخلو ثمن من أثمانه الـ480 من ذكر الموت واليوم الآخر والحساب والجزاء.. لماذا؟ لأنّ ذكر الموت بالنّسبة للنّفس هو كالرّوح، وبالنّسبة للقلب هو كالدّم.. فهو حياة للنّفس والقلب والرّوح، إذا ما أحسن العبد استثماره، بأن يجعله حاديا له لمراجعة نفسه، حاملا له على التوبة من أخطائه، معينا له على تنظيم حياته وتصحيح مساره، ليسعد بأيامه وحياته.

لماذا نكره ذكر الموت؟

في هذا الزّمان الذي نعيش أيامه ولياليه، أكثرُنا يكره الحديث عن الرّحيل والوداع، وينفِر من متابعة أيّ برنامج تلفزيّ يذكّره بالموت، ويتجاوز كلّ مقطع أو موعظة تتحدّث عن الموت عندما يتصفّح هاتفه، ويشيح بوجهه وسمعه كلّما ذكر الموت في مجلس من المجالس، وربّما يزجر المتكلّم وينكر عليه حديثه.. لماذا؟ لأنّنا ننظر إلى الموت على أنّه نهاية، بينما هو في الحقيقة بداية لحياة جديدة أكمل وأفضل لمن استقام ونظّم حياته.. نكره ذكر الموت لأنّنا نظنّ أنّه في كلّ الأحوال انتقال من دنيا واسعة رحبة إلى قبر مظلم ضيّق موحش.. بينما الحقيقة أنّ الموت هو انتقال من دار الهموم والأحزان والأكدار، إلى دار النّعيم والسّعادة والقرار، لمن نظّم أوقاته ورتّب حياته.. نحن نكره ذكر الموت لأنّنا نرى من أنفسنا التّقصير ونرى أنّنا عمرنا دنيانا وخرّبنا أخرانا؛ فنحن نكره الانتقال من العمران والخراب.. يُذكر أنّ الخليفة الأمويّ سليمان بن عبد الملك سأل الإمام أبا حازم سليمانَ بن مهران، فقال: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟! فقال أبو حازم: “لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب”.

مهما نسيناه فهو لن ينسانا

تلك هي إذا حالنا في هذا الزّمان إلا من رحم الله منّا، لكن هل ينفعنا أن نفرّ من ذكر الموت وتنقبض أنفسنا كلّما سمعنا خطبة أو موعظة أو قرأنا كلمة عن الموت؟ لا والله لن ينفعنا هذا في شيء، إنّما سيزيد قلوبنا قسوة وأرواحنا غفلة، ولن يؤخّر عنّا الموت ساعة واحدة، بل ولا دقيقة أو لحظة واحدة.. مهما حاولنا أن ننسى الموت لأجل أن نستمتع بحياتنا فإنّ الموت لا ولن ينسانا.. لكلّمنّا أجل محدود ومعدود لا يتأخّر لحظة ولا ثانية واحدة.. ((وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون)).

إذا حانت ساعة الرّحيل، لم ينفع الحذر ولم تغن الحيل، ولم ينفع طبّ الطّبيب ولا رقية الراقي.

إنّ الطبيبَ لهُ في الطبِّ معرفةٌ * ما دامَ في أَجَلِ الإنسانِ تأخيرُ

حتى إذا انقضتْ أيامُ مُدّتِهِ * حارَ الطبيبُ وخانتهُ العقاقيرُ.

يمكن بل ينبغي للعبد أن يقدّم الأسباب ليتفادى المرض وليتمتّع بصحّته، وليُشفى من مرضه إذا مرض، ويأخذ الاحتياطات حتى لا يودي بنفسه، لكن متى حان الأجل لم يغن الحذر..

الموت عندما يحين أجله لا يفرّق بين صحيح ومريض، ولا بين صغير وكبير، ولا بين مقيم ومسافر، فقد يسافر المسافر ويعود سالما، ويموت النّائم على فراشه، وقد يموت الشابّ القويّ مفتول العضلات ويعيش الشّيخ الكبير العليل إلى أجل مسمّى، وقد يشفى المريض الميؤوس منه ويموت الصّحيح المعافى الذي كان يخطّط للمستقبل.

يقول أحد الدّعاة: “قبل حوالي ست سنوات، أصيبت إحدى قريباتي بمرض خطير. خاف عليها والداها وإخوتها، وبدؤوا يتأهّبون لشهود يوم وفاتها.. مرت السنوات، وشفيت قريبتي بفضل الله، ثم توفي أبوها العام الماضي رحمه الله، وقبل أيام قليلة توفيت أمها وأختها في حادث أليم.عزاؤنا أنهما –أي الأمّ والأخت- كريمتان صالحتان فيما نحسبهما والله حسيبهما.. وها هي قريبتي التي كانت مريضة ميؤوسا منها، ها هي الآن في عافية…أسأل الله أن يحفظها ويختم لها بخير”.

كم من صحيح زار مريضا في مرضه وخرج يحدّث النّاس بأنّ أيام المريض ربّما تكون معدودة، فمات الزّائر وعاش المزور؟ بل كم من طبيب قال لأهل المريض إنّ مريضكم ميؤوس منه وربّما لن يعيش طويلا، فعاش المريض ومات الطّبيب.

يقول أحد الأطبّاء: رأيت رجلا في الثمانين من عمره، يعاني السكّريّ وضعفا في القلب وقد أصيب بجلطتين سابقا، مع قصور كلوي، ويُدْفع بكرسي متحرك، كان يتابع حالةَ هذا المريض الثمانيني، أحدُ زملائنا أطباء القلب.. الغريب أنّ طبيب القلب هذا تُوفِّي فجأةً رحمه الله ولم يكن يعاني من أيّ مرض، بينما لا يزال الثّمانينيّ على قيد الحياة.. الحياة والموت لهما أسبابٌ، لكنّ مقاديره سبحانه فوق كل شيء”.

وكم مِن مَريضٍ نَعاهُ الطبيبُ * إِلى نَفسِه وتَوَلىَّ كئيباً

فماتَ الطبيبُ وعاشَ المريضُ * فأضحى إِلى الناسِ ينعى الطبيبا.

إنّه آية من آيات الله

الموت آية من آيات الله.. عجز الخلق جميعا أمامه، ولا يزال منذ خلق الله الخليقة أكبر واعظ يذكّر الإنسان بضعفه وقلّة حيلته.. لكنّها قسوة القلوب هي التي تحول بيننا وبين الاعتبار بالموت.. نمرّ بحوادث المرور ونرى صورها على صفحات الإنترنت ونقرأ عن أعمار الضّحايا ونرى كيف أنّ أكثرهم من الشّباب.. بل وكم رأينا من حوادث مرور في مواكب الأعراس، يموت فيها العريس أو تموت العروس أو يموتان معا.. وكم سمعنا بشباب رحلوا عن هذه الدّنيا فجأة، وكان رحيلهم صدمة لكلّ من يعرفهم.. هذا يقول لك: والله ما كان يشكو أيّ مرض، وآخر يقول لك: بالأمس كان معنا يضحك ويمزح، وآخر يقول لك: كان يحدّثني عن مشروع زواجه، وعن عمله وعمّا ينتظره ويؤمّله…

الموت آية من آيات الله،يفضح هذه الدّنيا على حقيقتها بأنّها متاع الغرور وأنّها ظلّ زائل، ومحطّة قصيرة عابرة.. يقول أحد الأطبّاء: “اليوم أكملت عامي الثامن والثلاثين طبيبا؛ فماذا تعلمت؟ تعلمتأنّ الرّحلة بين الولادة والموت قصيرة ونعيمَها زائل لا محالة، وشاهدت وتفاعلت مع أناس كانوا في قمة الجبروت ولكنهم أصبحوا صغارا أمام فيروس لايُرى بالعين المجردة. تعلمتأنّ ما تعطيه اليوم سيعود إليك غدا، فكلّ الحياة سلف ودَين”.

هكذا يتحوّل ذكر الموت إلى حياة

ذكر الموت لا ينبغي أبدا أن يحملنا على اليأس، فبعد الموت لقاء كريم مع ربّ حنّان رحيم.. ينبغي أن نفرّ إليه في هذه الدّنيا لنجده يلقانا بعفوه وكرمه في الآخرة.. في يوم القيامة عندما يرى الواحد منّا عفو ربّه ورحمته ويرى كيف أنّه سبحانه تجاوز عن خطيئاته؛ لو قدّر له أن يموت من حبّ مولاه والحياء منه يومها لمات.. يتمنّى لو يعود إلى الدّنيا ليقضي عمره كلّه ساجدا لمولاه الحنّان المنّان الغفور الرّحيم.

ذكر الموت لا ينبغي أبدا أن يحملنا على الخوف أو اليأس، إنّما ينبغي أن يحملنا على الأمل والعمل.. الأمل في رحمة الله، والعمل استعدادا للقائه.. ذكر الموت لا ينبغي أبدا أن يحملنا على أن نجلس في بيوتنا ونترك أعمالنا وأشغالنا، إنّما ينبغي أن يحملنا على تنظيم أوقاتنا وترتيب حياتنا.. ينبغي أن يحملنا على المحافظة على صلواتنا في أوقاتها الخمس، على تلاوة جزأين من القرآن كلّ يوم.. على برّ والدينا والإحسان إليهم.. على صلة أرحامنا والإحسان إلى جوارنا..

على إنهاء العداوات التي بيننا وبين إخواننا وأقاربنا وجيراننا لأجل الدّنيا، فالدّنيا الفانية لا تستحقّ أن نتعادى لأجلها.. ينبغي أن يحملنا على كفّ ألسنتنا عن الغيبة والكلام في النّاس.. على غضّ أبصارنا عن النّظر إلى الحرام.. ذكر الموت ينبغي أن يحملنا على الحرص على لقمة الحلال والبعد عن لقمة الحرام.. على إتقان أعمالنا وأداء الأمانات التي أوكلت إلينا.. ذكر الموت ينبغي أن يحمل المسلمة على أن ترضي بلباسها خالقها ومولاها وألا تهتمّ بأذواق النّاس وآرائهم..

ذكر الموت ينبغي أن يحملنا على حفظ أوقاتنا وعدم إضاعتها فيما لا ينفع في الدّنيا والآخرة.. ذكر الموت ينبغي أن يحملنا على ترك المعارك الهامشية التي تأخذ أوقاتنا وتحرق أعمارنا.. سيدرك كلّ واحد منّا بعد مرحلة متقدمة من عمره أنّ كثيرا من المعاركالتي خاضها في حياته ماهي إلا جولات هامشية فاشلة؛عرقلت مسيرته، وأخرت نجاحه، وحطمت إبداعه.. لذلك ينبغي لكلّ واحد منّا أن يعيد ترتيب حياته، ويحدد أولوياته، ويتمسك بما ينفعه، ويترك عنه ما يكدر صفو طريقه؛ قبل فوات الأوان.

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • الشروق الجزائرية
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

لماذا نحن؟ وعلى أيّ شيء نحافظ؟!

مع تجدد حرب الإبادة الجماعية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، وبعدما فعل الفلسطينيون في هذا …