محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي، الذي قال الله عنه: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} [الجمعة:2] ومنهم هنا تعني أنه من بني جلدتهم، بشري مثلهم لا ملاكاً ولا إلهاً.
ويقول الله تعالى مؤكداً على بشريته صلى الله عليه وسلم، منوهاً إلى أنه ما كان له أن يكون ملكاً إلا أن يكون المبعوث إليهم ملائكة، يقول: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} [الإسراء:95].
إنما هو رسول تسري عليه البشرية التي تسري عليهم، وتجري في عروقه الدماء الإنسانية كما تجري في عروقهم، ولو كان ملكاً لقالوا فيما يدعوهم إليه: هذا ما يطيقه هو بملائكيته، أما نحن فبشر لا نطيق ما أتى به ولا ما ينادينا إليه.
إنما هو بشر أمر بما يطيق إتيانه وما يطيقون، وكان أسرع الناس في إتيان ما أمر به، ونهى عن ما يطيق الانتهاء عنه وما يطيقون، وكان أسرع الناس في الابتعاد عن ما نهى عنه.
هذه عقيدتنا نحن المسلمين، العقيدة الوسطية في كل شيء، فلا نفرِط كما أفرط النصارى عندما جعلوا من نبيهم عيسى عليه السلام إلهاً يعبدونه من دون الله، ولا نفرّط كما فرط اليهود في حق أنبيائهم فادعوا عليهم كل معاني السفه والعهر والنقص.
هو عندنا، محمد صلى الله عليه وسلم النبي البشري المعصوم، الذي اجتمعت فيه كل معاني الكمال البشري، فبلغ على رغم بشريته هذه مبلغاً لم يبلغه الملائكة المقربون.
هو عندنا، محمد صلى الله عليه وسلم النبي البشري المعصوم، الذي اجتمعت فيه كل معاني الكمال البشري، فبلغ على رغم بشريته هذه مبلغاً لم يبلغه الملائكة المقربون
لكننا على يقيننا ببشرية محمد صلى الله عليه وسلم، ننظر إلى سيرته بعين الانبهار من هذا البشري الذي جعل الله فيه وله، ما جعله بشراً غير عادي، ذا طبيعة بشرية خاصة.
نورد هنا بعضاً من الشواهد التي تؤكد على خصوصية بشريته صلى الله عليه وسلم.
-النبي صلى الله عليه وسلم كان طفلاً صغيراً بشرياً عند مرضعته ومربيته حليمة السعدية ككل الأطفال الصغار في ذلك الوقت، عندما كان يذهب أهلوهم بهم إلى مرضعات البادية رغبة في إرضاعهم وتنشئتهم القوية. لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن طفلاً بشرياً عادياً، حيث تورد الروايات حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم، عندما أتاه جبريل بطست فشق صدره وأخرج قلبه ثم نزع منه مضغة سوداء فقال: (هذا حظ الشيطان منك)، ثم غسل قلبه وأعاده وخاط صدره، وبقي أثر الخيط في صدر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك طوال عمره، كما ورد في صحيح مسلم.
فأي طفل بشري كان ليتحمل ذلك؟!
-النبي صلى الله عليه وسلم كان بشراً يعرق كما يعرق البشر، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بشراً عادياً عرقه كعرق البشر، فقد كان عرقه مسكاً، هكذا أخبرنا صحابته وأهله صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا يتسابقون لأخذ عرقه واختزانه في آنية عطورهم، لتزداد عطراً بعرق النبي صلى الله عليه وسلم هذه العطور، كما ورد في المتفق عليه بين البخاري ومسلم.
فأي جسد بشري عادي يتعرق مسكاً وعطراً؟!
-النبي صلى الله عليه وسلم كان بشراً يرى بعينيه كما يرى كل البشر، ولكنه صلى الله عليه وسلم يخبر صحابته أنه يرى بظهره، فعندما يكون في الصلاة ويهم بإمامة الصحابة، كان يقول استوِ يا فلان، وهو لا يستقبلهم إلا بظهره، ثم يقول لهم (أنا لست مثلكم، إنما أرى بظهري)، كما روي في البخاري ومسلم.
فأي بشري عادي يرى بظهره كما يرى بعينيه؟ّ!
-النبي صلى الله عليه وسلم كان بشراً ككل البشر يغضب ويسب في بعض الحالات، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بشراً عاديا سبابه كسباب البشر وغضبه كغضبهم، فقد أخبر أصحابه أنه صلى الله عليه وسلم مثلهم يغضب ويسب، لكنه سأل ربه أن يكون سبابه رحمات وبركات على من سبه،كما ورد في صحيح مسلم.
فأي بشر عادي يكون سبابه وغضبه رحمات وبركات ؟!
-النبي صلى الله عليه وسلم كان بشراً له قوة وطاقة كما لكل بشري قوة وطاقة، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بشرياً عادياً، فقد كان صلى الله عليه وسلم في قوة أربعة آلاف رجل -كما ذكر بعض أهلم العلم-، وقد كان من طاقته صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي نساءه جميعا في الليلة الواحدة، كما ورد في صحيح البخاري.
فأي بشري عادي له هذه القوة وتلك الطاقة ؟!
-النبي صلى الله عليه وسلم كان بشراً يحارب كما يحارب البشر فيقدم كما يقدمون ويحجم كما يحجمون، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بشراً عادياً إذا كانت انتفاضته وثورته، فقد ذكر أصحابه أنه صلى الله عليه وسلم في معركة أحد لما أن أراده أحد الكفار، همّ إليه النبي صلى الله عليه وسلم وانتفض، فتطاير الصحابة من حواليه تطاير الشعر عن ظهر البعير، كما ذكر في البداية والنهاية عن ابن إسحاق.
فأي بشري عادي يكون له ذلك ؟!
-النبي صلى الله عليه وسلم بشر كما البشر، يموت كما يموتون ويُقبر كما يقبرون، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بشراً عادياً تأكل جثته الأرض كما تأكل أجساد البشر، وإنما حُرم جسده على الأرض، فيبقى جسده صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة في قبره كيوم دفنه، كما روى الخمسة في كتبهم.
فأي بشري عادي يكون له ذلك ؟!