أثرنا في مواضع سابقة من الحديث، قضية علاقة المسلمين بما يحدث حولهم في العالم، في إطار تفاعلات العولمة في مختلف اتجاهاتها، السياسية والاجتماعية والثقافية.
وفي غالب الحال؛ فإننا وجدنا أن هناك الكثير من أوجه القصور في التعاطي مع مفردات العولمة وما فرضته تطورات العلم الحديثة من متغيرات في المجالَيْن الثقافي والمجتمعي، واللذين هما من أهم المجالات التي تثير الاهتمام، وتحتوي أكبر قدر ممكن من التفاعلات اليومية والعامة من حياة الإنسان.
ووجدنا أن هناك الكثير من الأسباب التي تقف خلف هذه الحالة، من بينها ظاهرة التأطير الحاصل لعدد ليس بالقليل من المسلمين عبر العالم؛ ربما رقم يندرج تحت مئات الملايين من عموم المسلمين.
والمقصود بكلمة "التأطير" هنا، قضية تحشيد وتجييش مجموعة أو عددٍ من المسلمين في إطار من الهويات الفرعية التي لا تضم كامل عموم الجماعة المسلمة.
وذلك لا يشمل فقط الجماعات والحركات الإسلامية وفق المفهوم القريب الذي قد يتبادر إلى الذهن عند قول ذلك، وإنما هو يشمل طائفةً واسعة من المظاهر، مثل المذاهب الفقهية والصوفية، وحتى وصولاً إلى الولاء لأنظمة تتبنى أو ترفع شعار الفكرة الإسلامية والمشروع الإسلامي.
هذه الحالة من التأطير قادت إلى تفكيك مجالات اهتمام عموم المسلمين، بعيدًا عن نقطة التنوع المحمود والمطلوب في ظل اتساع رقعة المحتوى الحضاري للإنسانية؛ حيث إنها حددت مجال الرؤية فقط بما يتم طرحه من أولويات من جانب زعامات/ قيادات سياسية/ روحية/ مذهبية.. إلخ في سياق واحد، وهو ما يخدم المشروعات المرتبطة بهذه الأطر، والتي غالبًا ما تكون سياسية، وليست متعلقة بجوهر المشروع الإسلامي ومصالح عموم المسلمين.
الأمر الآخر، هو تصور خاطئ للذات المسلمة، تراكم عبر قرون الانحطاط الأخيرة التي دخلتها الامة ضمن مراحل صعود وهبوط الأمم ونهوض ودوال الحضارات.
ومن المعروف أنه في مراحل التراجع والضعف؛ فإن الأمم غالبًا ما تأخد مسارًا من مسارات ثلاث، إما الانحلال الأخلاقي والتحلل من الفكرة الدينية، أو الميل إلى أفكار الخرافة، أو المزيد من التشدد الديني.
وكانت الحالة مُركَّبة في العالم الإسلامي في القرون الثلاث الأخيرة؛ حيث أخذت هذه الصور جميعًا!!
وكان من بين أهم الأمور التي طبعت على الذات المسلمة، حالة من البداوة والانكفاء، التي تتناقض تمامًا مع الانفتاح والانتشار الكبيرَيْن اللذَيْن عرفتهما الذات المسلمة –على المستوى الفردي والجماعي– في قرون الفتح والانسياح الحضاري التي قادت المسلمين إلى أطراف العالم القديم في كل اتجاه، بمختلف أشكال الجيوش؛ العسكرية، وجيوش التجار، وجيوش العلماء والمثقفين والمترجمين، وغير ذلك.
ومع تراجع هيمنة الدين ومكوناته، وخصوصًا الجزئية التي تتعلق بأنه منظومة لتصور المسلمين لأنفسهم وللعالم، وتصيغ علائق المسلم مع مختلف الدوائر المحيطة به، القريبة والبعيدة؛ سادت طبائع المجتمعات الشرقية الأميل إلى الانغلاق والمحافظة، وصارت هي علامة على الإسلام، بينما الإسلام ليس كذلك.
مع تراجع هيمنة الدين ومكوناته، وخصوصًا الجزئية التي تتعلق بأنه منظومة لتصور المسلمين لأنفسهم وللعالم، وتصيغ علائق المسلم مع مختلف الدوائر المحيطة به، القريبة والبعيدة؛ سادت طبائع المجتمعات الشرقية الأميل إلى الانغلاق والمحافظة، وصارت هي علامة على الإسلام، بينما الإسلام ليس كذلك
فلقد خلق المزج بين هذه الطبائع وبين الدين، قداسة لأمور لا ينبغي أن تكون لها قداسة، وخلقت تحسسات من الجديد، بإسقاطٍ خاطئ لمفهوم البدعة في الدين على كل حديث ومُستَجَد، سواء لجهة الأفكار أو لجهة مبتكرات العلم، أو لجهة صيرورات الحياة الإنسانية وأنماطها بشكل عام، مما لم يحرِّمه الدين، الذي معادلته في هذه الأمور بسيطة، ومن مفرداتها، أنه لا تحريم إلا بنصٍّ.
ولذلك، عندما جاءت العولمة بكل ما فيها من انسياحات في الفكرة والقيمة ونمط العيش، وضياع كامل لمفهوم الخصوصية طال حتى أسوار حصون أعتى الاستبداديات في العالم؛ لم يكن المسلمون مهيئين لها، لا على المستوى الفكري لجهة قبول حتى لفكرة أن هذا واقع قائم، ولا على مستوى الممارسة نفسها.
وهذا ليس استطرادًا؛ إذ إنه، ووفق قواعد المنهج العلمي السليم؛ فإن التوصيف الصحيح للمشكلة، هو أول طريق المعالجة.
وفي الحقيقة؛ تفرض علينا قواعد الموضوعية والواقعية أن نؤكد أن هذه الحالة لا يوجد إطار مؤسسي سليم الآن لمعالجتها، في ظل حالة الشقاق الكبير داخل الأمة، والتي وصلت إلى حد الأزمات السياسية والاقتتال بالسلاح بين الأطراف الأقدر على الفعل الجماعي لعظيم الأسف.
فهي على أبسط تقدير هي –أولاً– حالة استوعبت بداخلها قدرات المؤسسات الكبيرة لصالح صراعات الأطراف البينية هذا؛ حيث غالب هذه المؤسسات تتبع حكومات، وثانيًا، تمنع –هذه الحالة– نشوء أي شكل من أشكال التعاون واسع النطاق للالتفات إلى هذه المشكلة؛ مشكلة تقوقع المسلمين، بحيث إنهم صاروا خارج معادلة السباق الحضاري بأية صورة، حتى لو لم يستهدفهم خصوم الأمة بشكل مباشر بأساليب التعطيل المختلفة.
وبالتالي؛ فإن الحل الممكن والواقعي، هو المبادرات الفردية، وفي هذا فليتنافس المتنافسون، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن واجب الوقت الحالي على المسلمين، هو الخروج من بوتقة الاستقطاب، والعودة إلى أصل التصور الديني للحياة؛ الانسياح في الأرض من دون قيود سوى ضوابط الدين العقيدية والأخلاقية، وممارسة الدعوة كما قام أجدادنا في شرق وجنوب آسيا وفي أواسط أفريقيا، من خلال الرحلات والتجارة.
إن واجب الوقت الحالي على المسلمين، هو الخروج من بوتقة الاستقطاب، والعودة إلى أصل التصور الديني للحياة؛ الانسياح في الأرض من دون قيود سوى ضوابط الدين العقيدية والأخلاقية، وممارسة الدعوة كما قام أجدادنا في شرق وجنوب آسيا وفي أواسط أفريقيا
ولا نقصد هنا الرحلات والتجارة بالمعنى المباشر، وإنما نقصد مترادفاتها في العصر الحديث، مما يشمل الكثير من المناشط، وأهمها العمل في المجال الثقافي والمجتمعي، بدءًا من مستوى تأسيس مكان صغير يُخصَّص لثقافة الطفل في الحي الذي يقطنه، وصولاً إلى الاتفاق على طرح مبادرات ذات طابع إنساني معولم، مثل "حركة المواطن العالمي" التي سبق وأن تناولناها في مواضع حديث سابقة، أو التعاون مع بعض هذه المبادرات مما هو قائم، بصورة تبرز "تعاون المسلمين" وليس "انفصال المسلمين" عن السياق العام لحركة الإنسانية.
فهناك بالفعل مبادرات يقوم بها رجال مال وأعمال بالتعاون مع دعاة ومفكرين من أجل نشر مبادرات تعليمية وإغاثية في مناطق العالم الثالث الفقيرة، ولكنها، كما أشرنا؛ تقف عند حدود مجتمعات المسلمين هناك، أو أنشطة دعوية صرفة، وهو ما باعد ما بيننا وبين الجزء الأكبر من الأنشطة الإنسانية، لأن العالم ليس غالبية سكانه من المسلمين على أبسط تقدير.
هذا وضع المسلمين في حالة أقرب إلى مسميات أحياء اليهود القديمة في دول الشرق وأوروبا، "الجيتو" أو "القاهال" أو "الشتتل". وهو وضع نجده في أوساط المسلمين في المجتمعات الغربية؛ حيث إنهم في غالب الأمر، يتمركزون إما في أحياء بعينها داخل المدن الكبيرة، في تطبيق خاطئ مع مفهوم الإعلاء من الهوية الإسلامية، وإبرازها والتسامي بها؛ حيث لا تتعارض هويتي كمسلم مع أن أكون جزءًا من مجتمع غير مسلم، ولا تقتضي هويتنا الانتشار في مدن الأطراف بعيدًا عن الحواضر الفاعلة في المناشط الإنسانية الأهم .
هذا تطبيق خاص جدًّا لفكرة "التكفير والهجرة" التي شاعت في بعض المجتمعات العربية في العقود الماضية، وتطبقها بشكل إقصائي دموي بعض الجماعات المُصنَّفة خطأ إسلامية أو "سلفية جهادية".
وهذا الأمر، يمس في جانب منه أحد أخطر الملفات أو الجبهات التي يجب أن يتصدى لها كل العاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة، وهي جبهة الأقليات في الغرب؛ حيث إن هذه الحالة من التوقع، أثارت الكثير من مشاعر الكراهية للمسلمين من جانب التيارات اليمينية، وحتى أصحاب الرؤية العادية.
ويأتي ذلك من قناعة بدأت تأخذ مجالها المجتمعي الواسع، باعتبار أن المسلمين "رافضون للتعايش" و"يكرهون الآخر" و"ينفرون من قيمه"، وبالتالي؛ فهم يعتبرونهم خطرًا على قيمهم، ومن هنا تجد تيارات وممارسات "الإسلاموفوبيا" مجالاً داعمًا لها، والمؤسف أننا هنا لا نستطيع أن نقول إن هذه قناعة مبنية على أسس خاطئة. هي مبنية على أسس خاطئة فيما يخص طبيعة الإسلام، ولكنها غير خاطئة فيما يخص المسلمين، لأن هناك مسلمين يقومون بذلك فعلاً، يتكلمون به ويفعلونه.
وذلك بات واضحًا بشدة حتى في أكثر المجتمعات الغربية انفتاحًا وتسامحًا، مثل سويسرا في أوروبا، وكندا في أمريكا الشمالية؛ فنجد جرائم العنف التي تصل إلى حد القتل الجماعي، كما جرى في نيوزيلندا في مارس الماضي.
وهذا كتبه القاتل الذي ارتكب جريمته البشعة في مدينة "كريست تشيرش"، بشكل واضح في ورقة مطوَّلة نشرها بدقائق قبل أن يقوم بما قام به من جرم؛ حيث تكلم عن انعزالية المسلمين، وعن عدم انخراطهم في الحياة بشكل كامل، وبالتالي؛ فهو وجد أنهم يهددون قيم مجتمعه.
وفي الأخير؛ فإن هذا الحال يفرض علينا نشاطًا في قضية أكبر، وأشمل، تحتوي هذا الأمر، وهي تحويل الشريعة الإسلامية وأحكامها إلى قواعد وقوانين تطبيقية واضحة، تكون فيها سياقات حديث مرتبطة بالواقع، بل بمواقفه الجزئية التي يمكن أن يتعرض لها المسلم، وكيف يتعامل معها، لا أن نُستغرق في تفاصيل شديدة التعميم لا تحمل حلولاً لأزمات الواقع أو توجيهات واضحة للتعامل معه.
أي أننا يجب أن نتبعد تمامًا عن صيغة: "اصبر واحتسب" وكفى هذه. أنا يجب أن أقول للشباب المسلم من أبناء الجيلَيْن الأخيرَيْن؛ جيلَيْ مرحلة الانفتاح والانسياح هذه: "اصبر واحتسب، وافعل كذا" أيضًا.
كذلك، إن أول وأهم درس الآن يجب على تربويينا وعلمائنا تلقينه للشباب المسلم صغير السن، أنه جزء من هذا العالم، وأن عقيدته لا تفرض عليه الانعزال عنه بحجة الكبرياء الإسلامي . فعلى أبسط تقدير؛ فإننا لو فعلنا ذلك؛ فلن يكون هناك مكانٌ للكبرياء الإسلامي في هذا العالم، لأننا لو انعزلنا في دوائرنا الإسلامية المحلية الضيقة؛ لن تكون هناك جهودٌ دعوية أصلاً!