كيف يُحبُّنا اللهُ تعالى ويُرشِدُنا ويَهدينا بعقابه؟!

الرئيسية » بصائر الفكر » كيف يُحبُّنا اللهُ تعالى ويُرشِدُنا ويَهدينا بعقابه؟!
muslim4

معرفة اللهِ عز وجل هي أهم الأمور والقضايا التي بنبغي على كل مسلم أن يسعى إلى الإلمام بها؛ حيث إنها ترتبط بأساس العقيدة وخلق الكون، وهو الأساس المتعلق بمعرفة ربِّ وخالق هذا الكون ومدبِّرِه، وبالإله الأحق بالإفراد بالعبادة، أي بعقيدة التوحيد بشكل مباشر.

وهو أمرٌ ضروري بالبداهة؛ حيث إنه كيف سوف يتسنَّى للإنسان الإيمان اللهِ تعالى، والإذعان والتسليم، وإفراده بالعبادة من دون معرفته، ومن دون فهم أسباب أحقيته سبحانه بالعبادة من دون أي إلهٍ آخر مُدَّعً من جانب البشر وضلالاتهم!
في هذا الإطار، تتضمن عبارة "معرفة اللهِ عز وجل"، الكثير من الأمور التي ينبغي الإلمام بها، والمجالات التي ينبغي طرقها واستيعابها، ولا تقف عند مجرد معرفة وجود اللهِ عز وجل فحسب ؛ حيث إن ذلك فقط هو مفتاح أو بوابة للدخول إلى عالم واسع من المفاهيم والقناعات الإيمانية التي تستند إلى إطار معرفيٍّ شامل وتكوِّن فيما بينها علمًا كاملاً، وهو علم التوحيد.

وبالرغم من أن كل الأمور العلمية المرتبطة بهذا المبحث أو هذا العلم الذي يأتي على رأس قائمة العلوم الشرعية، التي تشمل القرآن الكريم والتفسير والحديث والسيرة النبوية؛ إلا أن الفترة المعاصرة من تاريخ الإنسانية، تشير إلى ضرورة إعطاء أولوية – لو صحَّ التعبير – لبعض الجوانب التي يتضمنها هذا الإطار المعرفي المفاهيمي المتعلق بمعرفة الخالق تبارك وتعالى، وهو الإطار الخاص بقضية الكيفية التي يدبِّر ويدير بها الله تعالى شؤون خَلْقِه كافة.

ويتصل بهذا مجموعة من القضايا والمسائل الأخرى التي تمثل مجالاً مهمًّا لاهتمام العاملين في حقول الدعوة والعمل الإسلامي المختلفة، وعلى رأسها تفلُّت شرائح واسعة من الشباب المسلم من التديُّن، وصولاً إلى الإلحاد، وعلى رأسها حكمة اللهِ عز وجل من الابتلاء، وخصوصًا الابتلاءات والمِحَن التي تصيب مَن يظنون في أنفسهم الخيرية، أو يرون أنهم – بمنطقهم – لا يستحقون ما يحدث لهم، في ظل كونهم "لا يؤذون أحدًا"، وأن حياتهم تدور في الإطار البسيط الذي لا يتصورون أن فيه بأسًا.

وبالتالي؛ فإن هذا الأمر يرتبط ارتباطًا موضوعيًّا كذلك بنواحٍ عقدية، مثل الإيمان بالقضاء والقدر، والذي هو أحد أركان الإيمان الستة المعروفة، وأولها الإيمان بالله، وكيفية تحقيق اللهِ عز وجل لبعض صفاته وأسمائه المتعلقة بتدبير شؤون الخَلْق بصوره المختلفة، باعتبار أنه مُدبِّرُ الأمر، وقيُّوم السماوات والأرض.

وأول شيء ينبغي الالتفات إليه في هذه النقطة، هو أن تقييم اللهِ تعالى للأمور والأحداث، مختلف تمامًا عن نظرتنا نحن كبشر للأمور؛ حيث إن منظور اللهَ تعالى للأمور، وإدارته لها، تكون في إطار شمولي متكامل، للحفاظ على توازن الكون، وبالتالي استمراريته، إلى أن يشاء الخالق، وتنتهي الدنيا بكل ما فيها ومَن فيها.

إن تقييم اللهِ تعالى للأمور والأحداث، مختلف تمامًا عن نظرتنا نحن كبشر للأمور؛ حيث إن منظور اللهَ تعالى للأمور، وإدارته لها، تكون في إطار شمولي متكامل، للحفاظ على توازن الكون، وبالتالي استمراريته، إلى أن يشاء الخالق، وتنتهي الدنيا بكل ما فيها ومَن فيها

وهذه الفكرة قال بها حتى الفلاسفة غير المسلمين، وحتى الذين ظهروا قبل نزول الديانات السماوية؛ من أن الغرور يصور للإنسان أنه محور هذا الكون، وأن المرحلة الزمنية التي يعيشها، بأحداثها، هي الأهم، وهي التي حدث الماضي كله لكي يهيأ لها المجال، وأنها هي التي سوف ترسم مستقبل البشرية.

وهي كلها ضلالات خاطئة، فمهما كانت خيريتنا؛ فإن الدنيا والخلق لا تقف عند أي عنصر جزئي؛ إنسان أو حدث أو ما شابه، واللهُ تعالى في تدبيره للخلق، وقيامه على شؤون الدنيا بما فيها ومَن فيها، لا يقف عند مرحلة زمنية معينة أو عند شخص بعينه، أو حدث، أو ما شابه، وإنما الأمر خاض لاعتبارات التوازن والاستمرارية، وبما لا نعلمه من حكمة ومشيئة اللهِ تعالى، والتي، أولاً؛ لن نفهمها، وينبغي ثانيًا، أن نقبلها ونسلِّم لها، طوعًا أو كرهًا.

واكتساب هذا الفهم، وأن يقر في ضميرنا وعقيدتنا، إنما يكون نتاج عددٍ من الأمور، من بينها التربية الإيمانية والفكرية الصحيحة، وتلقِّي العلم السليم، وهذا ما لا يوجد في كثير من الأحيان في مجتمعاتنا المسلمة، فيحدث ما نراه من انحرافات في العقيدة والتفكير.

وفي الحقيقة؛ فإن معرفة الإنسان الحقيقية باللهِ تعالى، لن تقوده إلا إلى المزيد من الإيمان به، وأن يكون أحب إليه ممَّن سواه، فعلى أقل تقدير؛ سوف يعلم الإنسان علم اليقين أن اللهَ تعالى لم يخلقه لكي يعذِّبه أو يشقيه، وأن المتاعب وأوجه وصور الشقاء المختلفة فيها الكثير من الخير، بينما في الأصل، لا يلتفت الإنسان إلى حقيقة بديهية، وهي أن ما يحدث له من سوء ومتاعب، إنما يكون هو نتاج عمله، الشرير أو المنقوص الذي تغيب عنه قواعد السلوك السليم أو الرشيد التي تضمن النجاح لأي فعل.

إن معرفة الإنسان الحقيقية باللهِ تعالى، لن تقوده إلا إلى المزيد من الإيمان به، وأن يكون أحب إليه ممَّن سواه، فعلى أقل تقدير؛ سوف يعلم الإنسان علم اليقين أن اللهَ تعالى لم يخلقه لكي يعذِّبه أو يشقيه، وأن المتاعب وأوجه وصور الشقاء المختلفة فيها الكثير من الخير

ولن نقول هنا الخطاب التقليدي المعروف الذي يقوله بعض العوام من الناس بفطرتهم السليمة، من أن اللهَ تعالى "لم يخلقك ليشقيك"، وإنما نقول إن ذلك موجود في القرآن الكريم؛ من أن اللهَ تعالى قد يهدينا ويرشدنا بواسطة العقاب والشدة والبلاء.

ولدينا في سُورَة "الروم" آية تلخِّص كل ذلك.. يقول تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)". الآية واضحة تمامًا في معناها، فهي تشير اولاً إلى أن ما نعانيه، والفساد هو أسوأ صور الشقاء والمعاناة، مع ما فيه من ظلم وضياع حقوق وفلتان أخلاقي يهدد حتى الأمن الشخصي للإنسان، والذي هو – أي الإحساس بالأمان – أول سُلَّم الاحتياجات الإنسانية، ولا تنهض حياة سليمة من دونه.

وثانيًا، هي تشير إلى أن اللهَ تعالى يذيق الإنسان من المعاناة والابتلاء بما كسبت يداه، وفي النهاية تقول الآية بأن جانبًا من حكمة اللهِ تعالى في ذلك، هو أن يرتجع الناس، ويرشدون، ولو أن اللهَ تعالى يكرهنا، وخلقنا لكي يعذِّبنا، أو خلقنا عبثًا – حاشا للهِ تعالى – ما فعل ما يعيدنا به إلى جادة الصواب.

واختيار الابتلاء والعقاب وسيلةً لذلك من لدنه عز وجل؛ إنما هو لحكمة بالغة، فاللهُ تعالى يعلم مَن خلق، ويعلم الإنسان حق العلم، وهو اللطيف الخبير، وبالتالي، فهو يعلم أن الشدة والضغط لهما أعمق الأثر على الإنسان، الذي جُبِلَ على النسيان إذا ما كان في راحةٍ من أمره، أو أصابته نعمة.

اختيار الابتلاء والعقاب وسيلةً لذلك من لدنه عز وجل؛ إنما هو لحكمة بالغة، فاللهُ تعالى يعلم مَن خلق، ويعلم الإنسان حق العلم، وهو اللطيف الخبير، وبالتالي، فهو يعلم أن الشدة والضغط لهما أعمق الأثر على الإنسان، الذي جُبِلَ على النسيان إذا ما كان في راحةٍ من أمره، أو أصابته نعمة

والقرآن الكريم فيه الكثير من القصص والمواقف التي تقول بذلك، فهناك قوم السفينة الذين كادت أن تغرق بهم، ودعوا اللهَ تعالى لأن ينجيهم، ولمَّا نجاهم، بغوا في الأرض وظلموا. يقول تعالى: "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23)" [سُورَة "يونس"].

وهنا قصة الزوجَيْن اللذَيْن سألا اللهَ تعالى الولد الصالح، فلما رزقهما إياه؛ أشركا به.. "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)" [سُورَة "الأعراف"].

وعلى العكس؛ فقد يكون من غضب اللهِ عليك ونقمته – عافانا اللهُ تعالى – ألا ينبهنا، ويقول القرآن الكريم إن اللهَ تعالى إذا ما أراد بقومٍ سوءًا؛ لا ينقذهم من غفلتهم، ويتركهم في ظلمهم وخطيئتهم حتى يأخذهم بغتةً بعذابه.
والآيات في ذلك كثيرة، نأخذ منها قوله تعالى: "فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ" [سُورَة "الأنعام" – الآية 44]، وقوله سبحانه: "فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ" [سُورَة "المؤمنون" – الآية 54].

وكل الآيات القرآنية التي وصف اللهُ تعالى فيها حضور الساعة بغتةً، كانت عن القوم الظالمين والكافرين، وليس عن المؤمنين، مع سوء وقعها في هذه الحالة، فلا يملك الإنسان فيها فرصة توبة أو رجوع أو استغفار.

وبالتالي؛ فإن الابتلاء والعقاب من اللهِ تعالى ليس علامة كراهية أو خروج من رحمة اللهِ تعالى، وإنما قد يكون علامة محبة من خالقك إليك، وتنبيهًا وهدايةً، وفي هذا كله؛ الإنسان هو الفيصل، بنواياه وعمله .
وبالتالي؛ فإنَّ عليك واجبًا مهمًّا في مثل هذه الحالات؛ أنْ تبحث وتحقق وتدقق فيما قمت به وفعلته في حياته، وتصحح ما تجده فيه من انحرافات وشرور وآثام.. يقول تبارك وتعالى "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [سُورَة "آل عمران" – الآية 165].

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …