في عقود خَلَتْ؛ لم يكن أهل تلك الأزمنة يتصورون أن تتحول ذكرى وعد بلفور في العالم العربي والإسلامي إلى الناحية المراسيمية، وفي هذا الإطار من الخفوت والبَهَتَان الذي رأيناه.
وهنا ثمَّة توضيح؛ أن هذا الموضع من الحديث لا يُعنى بوعد بلفور نفسه؛ حيث بِتْنَا نحفظ أبعاده، وندرك حقيقته بعد عقود من البحث التاريخي والسياسي، وبعد أن مرَّت عليه فترات قوانين سرية المعلومات والوثائق في الدول المعنية به، وعلى رأسها بريطانيا.
وإنما انتظر كاتب هذه السطور حتى انتهت الأجواء الزمنية للذكرى الـ102 لهذا الحدث المشؤوم الذي لا يزال يظل بتأثيراته أرجاء العالم العربي والإسلامي، من أجل فحص وتحليل مضمون بعض الكتابات والمواقف التي خرجت في هذه المناسبة.
وأول ملحظ مؤسف –كما أشرنا– هو أن الحدث قد مرَّ في إطار شديد الضعف والمراسيمية، وبشكل غير مألوف؛ حيث يُعتبر العام الحالي هو الأسوأ في التعامل مع ذكرى هذا الحدث، ويجسِّد مرحلة جديدة من تنامي اللامبالاة لدى شرائح واسعة من الأجيال الجديدة الناشئة على وجه الخصوص ، مما يعكس وجود انفصالٍ آخذ في الاتساع بين الشباب العربي والمسلم، حتى بعض الشرائح داخل مساقات العمل الإسلامي المختلفة، بما في ذلك مؤسسات وجماعات كانت تتصدر الصورة في أوقات سابقة.
وللأسف؛ هذا أول ما يتبادر إلى الذهن عند مطالعته، نبوءة رئيسة الوزراء الصهيونية الراحلة، جولدا مائير عندما كانت تتكلم عن الآفاق التي تراها للمشروع الصهيوني ودولته على أرض فلسطين، فقالت إن المستقبل سوف يشهد تحسُّنًا للوضع الأمني والسياسي للكيان الصهيوني؛ حيث سوف يموت الكبار وتنسى الأجيال التدريجية.
ولكن مائير لم تُشِر إلى كل شيء في خططهم لتأمين بقاء دولتهم اللقيطة، وأهم بند فيها، ونراه الآن، هو التطبيع، والذي وصل حتى إلى مستوى التطبيع الأمني، وتحول الكيان الصهيوني بسبب أجندة الأمن القومي الخاصة بالأنظمة والحكومات في عالمنا العربي، إلى حليف في مواجهة تهديدات أخرى من بين ظهرانينا.
وهو هدف استراتيجي في صلب السياسة الصهيونية وسياسات الدول والقوى العظمى التي تدعم المشروع الصهيوني الذي يأخذ أبعادًا أوسع نطاقًا من حدود فلسطين التاريخية؛ حيث هو أحد الأدوات التي تعمد إليها القوى التي دخلت في صراع حضاري وديني مع العالم الإسلامي منذ الأيام الأولى لنشوء دولة الإسلام في شبه الجزيرة العربية.
ولا يمكن تفسير هذه الحالة من البلادة بأي حال بالظروف التي تمر بها المنطقة العربية أو الحالة الفلسطينية المأزومة؛ حيث إن تطور وسائط الاتصال والانفتاح الحاصل على العالم من خلال التقنيات الرقمية، يمكنها تمكين الجمهور العام على الأقل من التعبير عن نفسه، والحديث مهما كانت الظروف السياسية والاجتماعية والأمنية القائمة في دائرته.
وربما يكون هذا مُنبِّهًا للقيِّمين على القضية الفلسطينية من أهلها في هذه الفترة؛ حيث إن هناك الكثير من التبريرات التي نسمعها من بعض الشرائح، بأنه "إذا كانت حتى القضية صارت لا تهم أصحابها المنشغلين بصراعات داخلية"، فعلى أقل تقدير؛ ينبغي على القوى التي لا تزال على الطريق السليم أن تقول إن الانقسام الداخلي الفلسطيني في جوهره، راجع إلى وجود حالة واسعة من الرفض من جانب الفصائل التي لا تزال تحافظ على رسالة المقاومة للخيارات المُذلَّة التي تتبناها السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، من اتفاقيات وتنسيق أمني وخلافه.
هذا الأمر غائب إلى حدٍّ كبير عن الخطاب الذي توجهه الحركة الإسلامية والوطنية الفلسطينية المقاوِمة إلى الجمهور العام، وتقف عن حدود بيانات تنشرها على منصاتها الإلكترونية، ولكنها لا تصل إلى الشرائح الأهم من الرأي العام العربي والإسلامي؛ أن الانقسام الفلسطيني في الأصل؛ هو في صميم مصلحة القضية، وضمن تدافع القوى الوطنية والإسلامية ضد محاولات إنهاء القضية.
الانقسام الفلسطيني في الأصل؛ هو في صميم مصلحة القضية، وضمن تدافع القوى الوطنية والإسلامية ضد محاولات إنهاء القضية
ومن ضمن الأمور اللافتة كذلك في التناولات التي أفلتت من حالة البلادة واللامبالاة هذه، ظهور روِّجت لها بعض الوسائط واسعة الانتشار بشأن أن وعد بلفور "ضار باليهود"، و"أن هناك يهودًا يرون في المشروع الصهيوني في فلسطين لا يتفق مع العقيدة اليهودية، وليس وقته الآن".
هذا باب خلفي خبيث للدخول إلى نفسيات العرب في بعض الأمور، ومردود عليه.
فأولاً؛ القوى اليهودية التي تعارض المشروع الصهيوني، مثل جماعة "ناطوري كارتا"، هي قِلَّة، وحتى مَن فيهم يقول بذلك، مثل اليهود الأرثوذكس؛ لا يقولون بهذا لأنهم –لا سمح الله– يحبون العرب ويؤيدون الحقوق الفلسطينية؛ إطلاقًا. فقط القصة تتعلق لديهم بأنهم وفق مذهبهم، يرون أن الوقت لم يحُن بعد لا أكثر لتنفيذ مشروع عودة شعب الله المختار إلى أرضه التاريخية بحسب زعمهم.
وقضية العنف والإرهاب لتنفيذ ذلك، ليست بعيدة عن عقيدتهم، ويماثلون الصهاينة المعاصرين في ذلك. لكن القضية؛ قضية وقت لم يحُن بعد فحسب.
وتعلُّل بعض الأوساط في عالمنا الإسلامي من رموز دينية وأنظمة وحكومات تقول إنها تعادي الكيان الصهيوني في التواصل مع هؤلاء، مثل منطق استغلال فرصة معينة تلوح لإضعاف الجبهة الداخلية لليهود؛ هذا منبنٍ إما على سذاجة مُفرِطة، أو على أن هؤلاء فعلاً أدوات للغرب وأصحاب المشروع الصهيوني، لتمرير هذا إلى ظهراني عالمنا العربي والإسلامي.
وفي غالب الحال؛ فإن اليهود هم أصحاب الديانة الوحيدة في العالم الذين يتطابق معتقدهم الديني مع مشروع سياسي ، كما كثير من الشيعة مع إيران، فـ"كل" يهودي من الأم، بمعنى كل يهودي؛ يكتسب الجنسية "الإسرائيلية" "أوتوماتيكيًّا".
ويهود العالم، بالذات الغرب، يخدمون اقتصاد الكيان الصهيوني كل عام بمليارات الدولارات، ولولا هذا الدعم؛ لكان الاقتصاد الصهيوني الرسمي، لا يزيد عن حجم دولة متوسطة الحجم في أوروبا.
ولذلك؛ فإن "كل" يهود العالم، هم جزء من منظومة الاستخبارات القومية الصهيونية، ولهم قسم خاص في جهاز "الموساد" لتجنيدهم وتوظيفهم، باسم "الكاتساه"، الذي يتابعهم حيث هم يكونون في أي مكان في العالم، وهو ما جعل جهاز المخابرات الإسرائيلي، من أوسع أجهزة المخابرات الدولية انتشارًا، ولا يجبُّه في ذلك سوى منظومة الاستخبارات الأمريكية، وحتى المصرية، لا تجبُّه؛ لأن عدد يهود العالم، أكبر من عدد المهاجرين المصريين، ممَّن يمكن لجهاز المخابرات المصري الاستعانة بهم في أماكن مختلفة من أنحاء العالم.
وبنفس المنطق؛ فإنه بموجب الجنسية لجهة الأم؛ هم "كلهم" وفق القانون العسكري الصهيوني، تحت التجنيد. بنسائهم، بكل فئاتهم.
وبعد؛ فإن هذه بعض الملاحظات على ما جرى بشأن ذكرى وعد بلفور في فضائنا الإعلامي والسياسي العربي هذا العام، ولئن كان هناك أمرٌ ينبغي الإشارة إليه؛ فهو أن أكثر الأمور ضمانة لإحياء مثل هذه الأمور في نفوس الأجيال الجديدة؛ هو لن أقول إنهاء الانقسام الفلسطيني؛ لأن هذا مستحيل؛ حيث لا يمكن للسلطة الفلسطينية والأطراف الضد قبول أجندة المقاومة، لأن ذلك معناه تصفيتها بالكامل من جانب الكيان الصهيوني وداعميه في الغرب؛ حيث هي موجودة وقائمة للقيام بأدوار وظيفية، ولا يمكن للمقاومة –في المقابل– أن تقبل بأجندة السلطة المذلَّة، وإلا فقدت هويتها، وبالتالي علَّة وجودها أصلاً.
لا يمكن للسلطة الفلسطينية والأطراف الضد قبول أجندة المقاومة، لأن ذلك معناه تصفيتها بالكامل من جانب الكيان الصهيوني وداعميه في الغرب؛ حيث هي موجودة وقائمة للقيام بأدوار وظيفية، ولا يمكن للمقاومة –في المقابل– أن تقبل بأجندة السلطة المذلَّة، وإلا فقدت هويتها، وبالتالي علَّة وجودها أصلاً
إنما المطلوب من المقاومة الفلسطينية أن تعمل على عزل الأطراف الضد، وتضييق دائرتهم من خلال استقطاب كل الشرفاء الموجودين في الساحة الفلسطينية ، شخصيات وتنظيمات ومواطنين حتى، وتكوين جبهة واسعة النطاق منهم، فيها حالة من التراصف بين كل هذه الأطراف، أشبه بالأرصفة الصخرية القوية التي تضعها حكومات الدول على سواحل مدنها لحمايتها من التآكل بواسطة مدِّ البحر.
ثم بعد ذلك؛ البدء في تصعيد مستمر للعمل المقاوِم بمختلف صوره، لإشعار العالم بأن القضية الفلسطينية لا تزال حية في نفوس أبنائها، وبالتالي؛ سوف تحيا من جديد في نفوس الرأي العام الخارجي.
إنه أمر مثيرٌ للاشمئزاز؛ أن نبقى نتكلم عن وعد بلفور بنظام العجائز العجزة، ونكتفي بعبارات "ألعن وعد".. "كلَّفنا آلاف الشهداء".. "ضياع فلسطين"... إلخ. هذا خطاب العاجز فقط، بينما في الحقيقة، نحن أقوياء، ولكننا لا نعلم، فقط عندما ينضج الوعي بذلك على مستوى الامة بالكامل، ونصبح متحدين مجددًا، ولا تحكمنا أنظمة عميلة؛ لكان الكيان الصهيوني الأن في قاع البحر فعلاً!