كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن التسامح -ولا سيما تسامح الأديان- وتعقد الندوات والمؤتمرات التي تعزز هذا المفهوم على أرض الواقع والتكاتف في وجه كل من يحاول بذر بذور التفرقة بين أتباع هذه الديانات من ناحية التركيز على وحدة المصدر وأخوة الإنسانية والوطن والشراكة في الهم الواحد.
وكل ما سبق لا غبار عليه، بل إنها دعوة يحترمها -أول من يحترمها- الإسلام الحنيف؛ إذ لا غرابة بهذه الدعوات للتسامح عن أصوله وحقيقته، بل إن الإسلام هو حامل اللواء في ذلك؛ فقد ضرب رسوله -عليه أفضل السلام وأتم التسليم- أروع الأمثلة فقد كان القدوة والنموذج في التسامح يسير على خطاه ويتبع أثره كل من تشرب من تعاليمه وخالطت شريعته الدم والأنفاس، ودونك كتب التاريخ والتراث لتجد من صور التسامح حدائق غناء تبهج النفس وتلقي عليها ظلالاً من الأمن والأمان.
بل بلغت رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- ذروتها في التسامح، وذلك عندما أقدم صلى الله عليه وسلم على الزواج من غير المسلمين، كأمهات المؤمنين مارية القبطية وصفية بنت حيي، ليمد يده الشريفة ويعزز التسامح، وذلك عن تعزيز أواصر النسب والقربى واعترافاً وتقبلاً منه -صلى الله عليه وسلم- للطرف الآخر، دون إنكار حقه في الوجود والحياة.
والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا المقام، غير أنني أود أن ألفت النظر لصورتين من صور التسامح، الذي كان رافعاً لواءه الإسلام الحنيف، لعل القارئ الكريم ينطلق من خلالهما ليتفكر ويوازن الأمور وينظر أي تسامح تقصده هذه الدعوات وهل لها من نصيب على أرض الواقع:
أولاً/ قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256].
"أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه بيّن واضح جليّ بدلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكرَه أحد على الدخول فيه" [عمدة التفسير لابن كثير] فالفتوحات الإسلامية لم يرو أحد أنها كانت تجبر الناس على الدخول في الإسلام، وإنما كانت تبلغ رسالة الله ، فمن أراد دخله طواعية ومن أبى فله اعتقاده، وهناك شهادات من غير المسلمين على ذلك، فانطبق عليهم قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا} [يوسف:26] وهذه المستشرقة الألمانية: (زيغريد هونكة) تدلي بشاهدتها قائلة: "لا إكراه في الدين، هذا ما أمر به القرآن الكريم، وبناء على ذلك فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها، سمح لهم جميعا دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأذى" (هونكة، زيغريد: شمس العرب تسطع على الغرب).
ثانياً/ وثيقة المدينة
وهذه الوثيقة كانت الأساس الثالث من الأسس المهمة للدولة التي أسسها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته إلى المدينة المنورة (فقه السيرة للبوطي) وقد كتبها صلى الله عليه وسلم لمن يخالفه المعتقد والدين، مقراً بوجود غير المسلمين في ربوع الدولة الإسلامية الفتية بناء على حقوق وواجبات، فتصان لهم حقوقهم دون المساس بهم ما داموا لم يرفعوا لواء الغدر والخيانة، فبقوا بذلك على دينهم وتعاليمهم لم يتعرض لهم أي من المسلمين، بل ويبلغ التسامح الإسلامي ذروته إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما" (صحيح البخاري) فهل عرف التاريخ تسامحاً مثل هذا؟
ويعلق محمد الغزالي على هذا الأساس من أسس بناء الدولة الجديدة: "هو صلة الأمة بالأجانب عنها، الذين لا يدينون بدينها، فإن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد سن في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في عالم مليء بالتعصب والمغالاة.
والذي يظن أن الإسلام دين لا يقبل جوار دين آخر، وأن المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفردوا في العالم بالبقاء والتسلط هو رجل مخطئ بل متحامل جريء!
فعندما جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة، وجد بها يهوداً توطّنوا ومشركين مستقرين، فلم يتجه فكره إلى رسم سياسة الإبعاد أو المصادرة والخصام، بل قَبِلَ -عن طيب خاطر- وجود اليهودية والوثنية، وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الند للند، على أن لهم دينهم وله دينه" (الغزالي، محمد: فقه السيرة).
ومن الجدير الإشارة إليه أن يأتي الحديث عن التسامح في وقت يتعرض فيه أتباع الإسلام لأعنف حملات الظلم والتشريد والتقتيل في نفس الوقت الذي يشار فيه بالبنان للمسلمين بالتشدد والإرهاب حيناً وبالتخلف والرجعية حيناً آخر ، والأحكام تطلق عليهم هكذا جزافاً لا نتيجة مخالطة أو تعامل، وإنما على شبهات تطلق هنا وهناك من وسائل إعلام موجهة أو بناء على تصرفات فردية أو جماعات تسمي نفسها "إسلامية" والإسلام منها براء، أو أن يُحكم على المسلمين من خلال مظهرهم العام فيما يتعلق باللباس وإلى ما ذلك.
ونتيجة لزعزعة ثقة المسلمين بأنفسهم تجد ثلة بدأت بالتحرر والانسلال من تعاليم الإسلام الأساسية بحجة مواكبة العصر أو دفعاً للتهم الموجهة للمسلمين، فلا غرابة أن تجد فتاة أخلّت بمواصفات الحجاب الشرعي حتى تبدو بمظهر -في نظر الغير- لا يمت للتشدد بصلة، بل تجد البعض في الوقت الذي يفرط فيه بالفرائض والأركان يبالغ في مشاركة سائر الطوائف بمناسباتهم بصورة مبالغ فيها بحجة التسامح وتقبل الآخر، ولو كانت هذه المشاركات تخرم وتناقض أساسيات شرعه ودينه.
ومما يدعو للغرابة أكثر وأكثر تجد أن هذه الطوائف -والتي تحمل اليوم لواء الدعوة للتسامح وتقبل الغير- من أشد الناس تمسكاً بطقوسهم ومناسباتهم بل ومظهرهم العام، ولا يرون في ذلك تشدداً وترسيخاً للعنصرية بل يعتبرونه من أساسيات إيمانهم، وفي ندوة -دعيت لها- تحت عنوان التسامح بين الأديان وجدت كل ممثل عن الديانات المشاركة قد حضر وهو محافظٌ على مظهره العام كرجل دين دون أدنى حرج.
وأتساءل هنا: ألا يستدعي ذلك وقفة متأنية من المسلمين الذين خرجوا عن حدود التسامح ومفهومه إلى التنازل عن الثوابت والمبادئ، بل والانسلاخ من شخصياتهم ليتقمصوا شخصيات أخرى، ثم أليس بموقف النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاه أهل مكة عندما قال لهم قولته الشهيرة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" فكان الصفح والعفو منه مقابل ما أعلنوه من عداء ومحاربة ومقاطعة بل وإخراج من الديار؟ أليس هذا قمة التسامح! إلا أنه في نفس اللحظة لم يترك صنماً واحداً بل أجهز عليها وطهر أرض الحرم من رجزها؛ لأنه بعفوه عنهم جسد أخلاق الإسلام الداعية للعفو والصفح، مترجماً قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] لكن دون أن يتنازل عن جزء من عقيدته.
في نفس اللحظة التي أمر ببعض من رجال المشركين أن يقتلوا إذا صادفهم المسلمون أو رأوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة؛ لأن خطاب القرآن الكريم واضح، بقوله تعالى: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8-9] فثمة بوْن شاسع بين من يقاتل المسلمين ويحاربهم وبين من يمد لهم يد السلام وثمة فرق بين تنازل عن حق شخصي وعن حق لله .
التسامح هو تقبل الآخر بفكره ومعتقده، ومعاملته معاملة إنسانية رحيمة دون أن نقدم تنازلات عن أسس في ديننا وأركان من عقيدتنا، وأن نتقبل الآخرين دون أن نستبدل جلودنا
وخذ مثالا آخرا عن تقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- لآخر وتعامله معه بسماحة الإسلام ولكن دون أن تنال أسس العقيدة أو أن تنتهك حدود الله، فقد رُوي: "أن فتى شاباً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: أدنه، فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم! قال: أفتحبه لأختك؟ قال لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم! قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم! قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم! قال فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء" (مسند أحمد بن حنبل).
فالتسامح هو تقبل الآخر بفكره ومعتقده، ومعاملته معاملة إنسانية رحيمة دون أن نقدم تنازلات عن أسس في ديننا وأركان من عقيدتنا، أن نتقبل الآخرين دون أن نستبدل جلودنا، أن نتمسك بشريعتنا دونما تنازل ومن غير تغيير لملامح شخصياتنا، قمة التسامح تقبلك للآخرين دون ذوبان في شخصياتهم محافظاً على شخصيتك وهويتك كمسلم ارتضى الإسلام ديناً وعقيدة وشريعة رضي من رضي وأبى من أبى، وغير ذلك هو تنازل وهوان، وهذا ينافي العزة التي أرادها الله لعباده: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، وما دون ذلك فهو هوان وتنازل وخنوع أبعد ما يكون عن التسامح.