الحزن بين المقصد الشرعي والإرضاء النفسي

الرئيسية » خواطر تربوية » الحزن بين المقصد الشرعي والإرضاء النفسي
sad22

ثمة حالة يمر بها بعض السائرين إلى الله إذ تجد الواحد منهم قاطب الجبين مهموم القلب يرزح تحت جبال من الحزن وقد ضرب بينه وبين السرور بسور باطنه وظاهره من الهموم والأحزان مالا يعلم بها إلا الله وإن كانت آثارها بادية على محياهم للعيان، فإن سألته أو استنكرت عليه حاله رد عليك ببعض النصوص والآثار التي تدعوا السالك لنزولها كما ورد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان متواصل الأحزان" (البيهقي، شعب الإيمان)، وما روي: "إن الله يحب كل قلب حزين" (المستدرك على الصحيحين)، وغيرها من النصوص التي قد يحتج بها من جعل من الحزن سبيلاً أو مطية يسير من خلالها ويتقرب إلى الله عز وجل، وقد اعتمد على نصوص لم يثبت صحة بعضها أو أُشكل عليه فهم بعضها الآخر ليجعل الحزن مقصوداً لذاته.

ويتساءل المؤمن وحق له ذلك هل الحزن مقصد شرعي يقصد لذاته وحالة أصلية لا ينبغي للمؤمن الفكاك عنها أم أنها عرض مرضي يوهن القلب ويضعف النفس ويُقعد عن العمل، مما ينبغي تجاوزه والخروج من تحت وطأته والفكاك من قيده؟

ويجيب على ذلك ابن قيم الجوزية في حديثه عن منزلة الحزن: "وليست من المنازل المطلوبة. ولا المأمور بنزولها، وإن كان لا بد للسالك من نزولها. ولم يأت "الحزن" في القرآن إلا منهيا عنه. أو منفياً... فالحزن ليس بمطلوب ولا مقصود، ولا فيه فائدة" (مدارج السالكين)، وإذا استقطع القارئ الكريم من وقته دقائق ونظر في كتاب الله وسنة نبيه لوجد صريح الآيات منها ما ينهى عن الحزن كقوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آل عمران:139]، وقوله: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ومنها ما ينفي الحزن: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]، بل إنّ النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ منه فكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن" (رواه البخاري).

وقد يُرد البعض بقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]، أليس في الآية مدح لأولئك الذين حزنوا وأصابهم الحزن؟ فيُجاب على ذلك: "لم يمدحوا على نفس الحزن. وإنما مُدحوا على ما دل ّ عليه الحزن من قوة إيمانهم حيث تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعجزهم عن النفقة" (مدارج السالكين)، وهذا ما تجده في نفسك عند فوات طاعة أمسكك المرض عنها أو حال بينك وبينها حائل، بل إن حديث رسول الله: "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته" (رواه مسلم) إنما يدل على انه من جملة المصائب التي يبتلي الله بها عباده تكفيرا عن الخطايا والذنوب، وهذا مثلما يجد المؤمن أثره إثر تقصير منه في جنب الله، أو بفوات مرغوب كفقد عزيز والذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى ربنا والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون" (رواه مسلم).

يتبين مما سبق أنّ للحزن حالتين قد يعترضا سير السالك إلى الله.

الحالة الأولى: الحزن السلبي الذي يقعد بصاحبه عن العمل والسعي.

الحالة الثانية: الحزن الإيجابي الذي ينهض بصاحبه ويستدرك من خلاله في حاضره ومقتبل أيامه ما فات منها.

وشتان بين حزن تقصده وتسير إليه لذاته فالباعث عليه شيطان يريد أن يحزنك ويسلك بك مسالك القنوط واليأس وعدم استشعار فضل الله عليك حتى وأنت تخطئ وتقصر بحق الله أن جعل لك من التوبة بابا تؤوب إليه بعد كل عثرة أو معصية أو ذنب تعثرت به نفسك، وبين حزن يبعث بك الأمل والرجاء فتتبع كل سيئة حسنة حتى إذا داهمك الحزن على فوات طاعة أو معروف استنفر كل قواك وأفزعك عن فراش الدعة والراحة لتقف بين يدي ربك تضاعف من أعمال البر والطاعات مقدما عذرك بين يدي ربك مقرا بفقرك وضعفك عن وفاء الشكر لمن خلقك فسواك.

ومن جمالية الإسلام حرصه على تربية المسلم تربية إيجابية تحافظ على قلبه ونفسه من آفات اليأس والقنوط فيزرع في النفس كل ما يبهجها ويسرّها ولو كان ذلك في بسمة بوجه أخيك تخفف عنه أحماله وتشرق بها نفسك، كما تتجلى إيجابية الإسلام بأنه دين لا يتنكر لطبيعة ضعفك البشري بل يقرها ولكنه يمدك بكل الأسباب التي من شأنها أن تقوي من عزمك وإرادتك، حتى عندما يضعف الإنسان ويعصي ربه تبرز إيجابية الإسلام بفتحه لباب الأوبة بصورة يستنهض بها قواة المرء ويحرره من أغلال اليأس، فلا يرتضي الإسلام منك الجلوس مكتئبا حزينا وإنما يوقد فيك جذوة الأمل فتنطلق متداركا ما فاتك، إذ ما نفع الحزن إذا أقعدك عن السير وانقطع بك عن السائرين؟!  فالحزن لا ينفك عن كونه هروباً من مواجهة واقعك ودغدغة لمشاعرك وإرضاء لنفسك ما دام يضعفك عن تحريك الساكن وإصلاح الفاسد.

الحزن لا ينفك عن كونه هروباً من مواجهة واقعك ودغدغة لمشاعرك وإرضاء لنفسك ما دام يضعفك عن تحريك الساكن وإصلاح الفاسد

وهو ما عبر عنه ابن عطاء في حكمته الرابعة والسبعون: "الحزن على فقدان الطاعة مع عدم النهوض إليها، من علامات الاغترار.

ويعلق البوطي على هذه الحكمة شارحاً: "والمقصود أن قيمة الحزن إذ يساور الشعور به الإنسان، إنما تتمثل في أن ينهضه إلى تدارك ما فات، بفعل متروك، أو بإصلاح فساد، أو تكميل نقص، أو تقويم اعوجاج. فذلك هو الدواء الذي يتم القضاء به على مرض الحزن..ومن ثم فإن الشأن فيمن ساوره الحزن، حقا، على تقصيره في أداء الطاعات التي أمره الله بها، أن ينهض فيتداركها، بالتوبة من ماضي تقصيره، والمبادرة إلى قضاء ما فاته مما يشرع قضاؤه".

وعلى هذا فقد يكون الحزن حيلة من النفس تميل إلى السكون وعدم السعي في طاعة الله مكتفية بزفرات تطلقها ودمعات تسكبها على فائت لم تحرك ساكنا لجبر القصور فيه أو لتحصيل غيره، ولو أن كل دموع المحزونين انهمرت لما كفرت عنك وزر فرض فاتك ما لم تقم بقضائه أو أدائه كما أمر ربنا عز وجل ، أو أن يكون حيلة شيطانية يسعى بها لتبديد طاقتك وتفريق شملك وإتلاف نفسك والقعود بك عن القيام بواجباتك وأداء مهامك اتجاه نفسك وربك ومجتمعك، بل إن من مهام الشيطان وأهدافه إحزان المؤمن استنادا لقوله تعالى: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10].

فالذي يقعده حزنه عن الطاعة وعدم النهوض إليها إنما كان ذلك من علامات الاغترار الذي قصده ابن عطاء في حكمته ووضحه البوطي في شرحه: "فلعل الذين يعنيهم ابن عطاء الله بالغرور، فيما ينتابهم من مشاعر الحزن، دون أن يصرفهم الحزن عن آثامهم ويسوقهم إلى القيام بالطاعات، أولئك الذين يركنون إلى وطأة الحزن، دون أن يدفعهم العجز عن إصلاح الحال، إلى طلب العون من الله، وكثرة الالتجاء إليه".

ومهما بلغ الحزن في قلب المسلم مبلغه على معاصيه وذنوبه إلا أنه سيظل معرضا للمعاصي، مما يستلزم من هذه الحالة أن ينزع المسلم للحزن عملا بوصية رسول الله: "وابك على خطيئتك" (رواه الترمذي) حتى تأتيه البشارة بالتوبة والقبول وحتى ذلك الوقت سيظل الحزن رفيق المسلم يدفعه عن قلبه ونفسه بترجمة مشاعره هذه لأعمال يتقرب بها إلى الله ويقدم بها معذرته على تقصيره في جنب الله، وحتى يكون حزنك حجة لك لا عليك اجعل منه مطية ترتحل بها إلى الله تلتمس منه القربى أو كما جناح الطير يحلق بك وينتزعك من التثاقل للأرض والسكون إليها فيطير بك من القعود والتخلف عن مواكب السائرين لمسابقتهم في ميدان العمل الذي أتاحه الله بين يديك ومكنك منه متداركا لما فاتك من عمر ووقت وعمل.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …